


يُشتبه في أنّ أكثر من 100 موقع لأسلحة كيميائية لا تزال قائمة في سوريا، بعد سقوط الرئيس السوري السابق بشار الأسد، وفقاً للمنظمة الدولية الرائدة في تتبّع هذه الأسلحة.
ويُعدّ هذا الرقم أول تقدير من نوعه، بينما تسعى منظمة حظر الأسلحة الكيميائية إلى دخول سوريا لتقييم ما تبقّى من البرنامج العسكري الشهير للأسد. ويُعدّ الرقم أعلى بكثير من أي عدد سبق أن أقرّ به الأسد.
ويُعتقد أنّ هذه المواقع كانت متورّطة في البحث، التصنيع والتخزين للأسلحة الكيميائية. واستخدم الأسد أسلحة مثل غاز السارين وغاز الكلور ضدّ المقاتلين المعارضين والمدنيِّين السوريِّين خلال أكثر من عقد من الحرب الأهلية.
كان عدد المواقع، وما إذا كانت مؤمّنة، لغزاً منذ أنّ أطاح المتمرّدون بالأسد العام الماضي. والآن، تمثل هذه المواد الكيميائية اختباراً كبيراً للحكومة الموقتة، التي تقودها جماعة «هيئة تحرير الشام»، المصنّفة كمنظمة إرهابية من قِبل الولايات المتحدة، لكنّها تخلّت عن صلاتها بتنظيم القاعدة.
وتكمن خطورة الوضع في مدى فتك هذه الأسلحة، خصوصاً عند استخدامها في المناطق المأهولة بكثافة سكانية. فغاز السارين (عامل أعصاب) يمكن أن يقتل في غضون دقائق. أمّا الكلور وغاز الخردل، وهما سلاحان اشتهرا في الحرب العالمية الأولى، فيحرقان العينَين والجلد ويملآن الرئتَين بالسوائل، ما يتسبّب في غرق الأشخاص على اليابسة. ويشعر الخبراء بالقلق من إمكانية وصول الجماعات المسلحة إلى منشآت الأسلحة الكيميائية غير المؤمّنة بشكل جيد.
وفي زيارة مفاجئة في آذار إلى مقرّ منظمة حظر الأسلحة الكيميائية في لاهاي، أعلن وزير الخارجية السوري أنّ الحكومة «ستُدمِّر أي بقايا من برنامج الأسلحة الكيميائية الذي طوِّر مع نظام الأسد»، وستلتزم بالقانون الدولي.
ويشعر الخبراء بتفاؤل حذر حيال مدى جدّية الحكومة الحالية التي سمحت لفريق من المنظمة بدخول البلاد هذا العام لبدء توثيق المواقع، وفقاً لأشخاص على دراية بالرحلة.
لكنّ سوريا لا تزال في وضع هش، إذ اندلع العنف في الأسابيع الأخيرة في المنطقة الساحلية بين القوات الحكومية والجماعات الموالية للأسد. وعلى رغم من الوعود، لم تُعيِّن الحكومة الجديدة بعد سفيراً لدى المنظمة، وهي خطوة أولى رئيسة يُنظر إليها على أنّها علامة على التزام الدولة. وقد رفضت وزارة الدفاع السورية الردّ على الأسئلة المكتوبة بشأن الأسلحة، قائلة من دون توضيح إنّ هذه الأسئلة ليست من ضمن اختصاصها.
في السنوات الأولى من الحرب الأهلية، أعلن نظام الأسد عن مواقع 27 منشأة لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية، التي أرسلت مفتشين لزيارتها وإغلاقها. لكنّ الأسد واصل استخدام الأسلحة الكيميائية حتى عام 2018 على الأقل، وأظهرت الأبحاث أنّ حكومته استمرّت في استيراد المواد الكيميائية الأولية الأساسية.
بحسب تقدير حالي تمّ تداوله أخّيراً بين الخبراء والمحلّلين الدوليِّين المتخصّصين في منع انتشار الأسلحة، أُفيد عن وجود أكثر من 100 موقع من المنظمة التي أوضحت أنّها توصّلت إلى هذا الرقم بناءً على أبحاث خارجية، مؤسسات غير ربحية، ومعلومات استخباراتية تبادلتها الدول الأعضاء.
ويُحتمل أن تكون بعض المواقع مخفية في كهوف أو أماكن أخرى يصعب العثور عليها من خلال صور الأقمار الصناعية، بحسب الباحثين وأعضاء سابقين في المنظمة وخبراء آخرين. ويزيد ذلك من احتمال أنّ بعض الأسلحة ليست مؤمّنة.
وأكّد رائد الصالح، قائد الدفاع المدني السوري المعروف باسم «الخوذ البيضاء»، وهي مجموعة تطوّعية تعمل مع الحكومة لمحاولة تفكيك مواقع الأسلحة الكيميائية: «هناك العديد من المواقع التي لا نعرف عنها شيئاً، لأنّ النظام القديم كان يكذب على منظمة حظر الأسلحة الكيميائية».
فيما كشف نضال شيكاني، الذي يرأس مركز توثيق الانتهاكات الكيميائية في سوريا وعمل مع منظمة حظر الأسلحة الكيميائية لسنوات، أنّ مجموعته حدّدت عشرات المواقع الجديدة التي قد تكون مخازن لأسلحة كيميائية أو مواقع بحث سابقة، وذلك استناداً إلى مقابلات مع علماء سوريِّين حكوميِّين يعيشون في أوروبا.
ويُعدّ العثور على هذه المواقع والسيطرة عليها أمراً مهماً لأسباب تتجاوز الأمن. إذ يرغب المفتشون أيضاً في جمع الأدلة من أجل تحقيقاتهم في الاستخدام المتكرّر للأسلحة الكيميائية من قِبل الأسد. وقد وثق مراقبون دوليّون وباحثون مستقلون ومنظمات إنسانية سورية عشرات الهجمات، كان من بين ضحاياها آلاف الأشخاص، بمَن فيهم أطفال. وكانت أشهر هذه الهجمات هجوم بغاز السارين عام 2013 على منطقة الغوطة، إحدى ضواحي العاصمة دمشق.
العام الماضي، شنّت إسرائيل غارات جوية على عدة منشآت تابعة للنظام السوري كان يُعرف أنّها تحتوي على أسلحة كيميائية. لكن لا يزال من غير الواضح ما إذا كانت تلك الغارات قد دمّرت الأسلحة الكيميائية. وأعرب شيكاني وآخرون عن خشيتهم في أن تكون تلك الضربات قد تسبّبت فقط في تلوّث بيئي ودمّرت الأدلة. وتأمل الجماعات الدولية في أن تكشف الأدلة الكيميائية عن إجابات لأسئلة أساسية بشأن أبحاث حكومة الأسد، وتساعد في الملاحقات القضائية الدولية.
ورأت ناتاشا هول، الباحثة في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن، أنّ «الهجمات الإسرائيلية التي وقعت بعد سقوط الأسد على الأرجح لم تُحدِث أثراً كبيراً في هذا الشأن، وربما أعاقت الجهود الرامية إلى المساءلة».
يُحظّر استخدام غاز السارين بموجب القانون الدولي. أمّا القواعد المتعلقة بمواد كيميائية أخرى فهي أكثر غموضاً. على سبيل المثال، يمكن صنع غاز الكلور باستخدام منتجات تنظيف منزلية شائعة، بالتالي من شبه المستحيل تنظيم بيع المواد الأولية.
وقد بدأ برنامج الأسلحة الكيميائية السوري في السبعينات بمساعدة مئات من العلماء الحكوميِّين، الذين تلقّى كثير منهم تدريباً في ألمانيا وأجزاء أخرى من أوروبا، بحسب كيميائي سوري كبير سابق في الحكومة، تحدّث بشرط عدم الكشف عن هويّته خوفاً من الانتقام. وعمل هذا العالِم في قسم الأسلحة الكيميائية في مركز الدراسات والبحوث العلمية التابع للجيش الذي يخضع إلى عقوبات دولية لعمله على الأسلحة التقليدية والكيميائية والنووية.
وأكّد العالِم وآخرون أنّ العديد من العلماء فرّوا من البلاد خلال الحرب، لكنّ آخرين لا يزالون في سوريا. وقد فرضت الولايات المتحدة عقوبات على أكثر من 300 شخص وكيان على صلة ببرنامج الأسلحة الكيميائية السوري.
على رغم من تطمينات الحكومة الجديدة، فإنّ مفتشي الأسلحة يُخفّفون من تفاؤلهم، إذ سمعوا مثل هذه التطمينات من قَبل في سوريا، التي وافقت لأول مرّة على التخلّص من الأسلحة الكيميائية قبل أكثر من عقد. لكن بينما كان المفتشون يباشرون عملهم، أصبحوا مقتنعين بأنّ الأسد لم تكن لديه أي نية للكشف الكامل عن معلومات مخزونه. إذ يؤكّد موظفون سابقون أنّهم كانوا مقيّدين باستمرار من قبل الحكومة.
في أحد الحوادث عام 2014، كان المفتشون وأعضاء سوريّون في طاقم العمل يحققون في موقع محتمل، عندما اصطدمت سيارة في قافلتهم بعبوة ناسفة على جانب الطريق. واتَهَم اثنان من السوريِّين في القافلة الحكومة بتضليلهم والتأكيد لهم أنّ الطريق آمن. واستذكر موظفون آخرون أنّهم كانوا يشعرون بالخوف الدائم من أنّ الحكومة تتنصّت على محادثاتهم أو تتجسّس عليهم.
في مدينة زملكا قرب دمشق، تحمل شواهد القبور أسماء العديد من السكان الذين قُتلوا خلال الحرب، وتواريخ وفاتهم. وعلى الجانب الآخر من المقبرة، تقع كومة من التراب، مرفوعة إلى مستوى الأرض، من دون أي علامة تُميّزها.
وكشف مسؤول محلي أنّ المدينة دفنت هناك الرجال والنساء والأطفال الذين قُتلوا في هجوم كيميائي مشتبه فيه عام 2013. وعندما استعاد نظام الأسد السيطرة على المدينة في عام 2017، أقرّ المسؤول أنّ الحكومة أزالت شواهد القبور وغطّت مواقع الدفن.








