

تعدّدت عناوين الإطلالة الأولى، لكنّ سعيد جزم بوجوب «سداد وإعادة جميع الودائع، من خلال تحمّل مصرف لبنان والمصارف والدولة مسؤولياتهم»، ودعوة كل البنوك إلى زيادة رؤوس أموالها بإضافة أموال جديدة، تحت طائلة دمجها، لمن لا يرغب منها. وهو تأكيد ترك انطباعاً إيجابياً بشأن الأداء المرتقب للحاكم سعيد، خصوصاً بعد الحملة التي حصلت سابقاً ضدّ تعيينه.
يمكن هنا الربط بين ما كان أكدّه رئيس الجمهورية جوزاف عون، في خطاب القَسَم، حول عهده «بعدم التهاون في حماية أموال المودعين، والحفاظ على اقتصاد تنتظم فيه المصارف تحت سقف الحَوكمة والشفافية»، وبين ما ذكره سعيد في خطاب التسلّم.
من هنا، يُفهم بشكل واضح أنّ مُنطلقَ تلك المعادلة واحد، في مقاربة ومعالجة ملف مالي - اقتصادي حسّاس، بحجم أموال اللبنانيِّين. ولم تأتِ هذه المعادلة من فراغ، بل تنطلق من فهم طبيعة ملف الودائع وتأثيره على مسار القطاع المصرفي برمّته في لبنان، خصوصاً أنّ هذا القطاع المتجذّر منذ ما قبل إعلان «دولة لبنان الكبير»، ساهم تميّزه في جعل لبنان مساحة جذب للأموال، نتيجة السرّية المصرفية أيضاً، وهروب المستثمرين وأصحاب الرساميل من الأنظمة الاشتراكية في دول مجاورة وإقليمية، ممّا أبقى القطاع المصرفي حيّاً على رغم من النكبات التي أصابته مباشرة، أو أحاطت به خلال سنوات الحرب.
ينطلق التشدّد الذي أبداه رئيس الجمهورية في مقاربة ملف الحاكمية، من ركائز وطنية عدة، أبرزها إعادة استنهاض الواقع المصرفي، وإنصاف المودعين، لكن هناك أبعاداً أُخِذت في الاعتبار، تتعلق بالدور المسيحي في لبنان الذي تحرص بقية الطوائف على صَونه وحمايته.
صحيح أنّ عون أصرّ على تعيين سعيد بسبب قدراته وتجاربه وكفايته الإدارية والمالية، إلّا أنّ الانتظام الوطني، الذي يستمد فعاليته من التوازن القائم بين مكوّنات لبنان وعائلاته الروحية، حتّم أيضاً على رئيس الجمهورية والقوى والشخصيات السياسية المسيحية الوقوف خلف قرار رئيس الجمهورية بتعيين سعيد، وهو ما دعا مكوّنات أخرى إلى تأييد هذا القرار، بإستثناء رئيس الحكومة نواف سلام الذي تفهّم المسألة بعد التعيين.
يعود منصب حاكمية مصرف لبنان بحسب التوزيع الطوائفي اللبناني للمسيحيِّين الموارنة، لذلك كان الإصرار أن يسمّيه رئيس الجمهورية بدعم أكثرية الثلثين في مجلس الوزراء.
وتساند عادة كل الطوائف القرار المسيحي، على رغم من التباينات السياسية أحياناً، وهو ما حافظت عليه العهود الرئاسية، ولم يتجاوزه رئيس الحكومة الشهيد رفيق الحريري في عزّ أيام اهتمامه بالاقتصاد والمصارف، وتمدّد نفوذه في عالم المال.
ويأتي القرار انطلاقاً من وقائع تاريخيّة، لا تتعلق بحسابات محاصصات الطوائف فحسب، بل استناداً إلى تاريخ القطاع المصرفي اللبناني الذي لعب فيه المسيحيّون أدوار المؤسسين، إذ نُظر إلى المسيحيِّين في لبنان من خلال تميّزهم الوجودي في القطاعات الاقتصادية والمالية والسياحية والثقافية وتطوّر اللغة وانتشار العلم واتقان السياسة.
ويمكن للاستدلال الاطلاع على وقائع تاريخيّة في تأسيس المصارف:
- يُعتبر بنك فرعون - شيحا من أقدم المصارف اللبنانية، وأسسه فيليب فرعون عام 1876، وترأسه ميشال وألبير وجوزف فرعون وأنطوان شيحا.
- أسس موسى فريج مصرفه في بيروت عام 1902.
- أطلق سمعان باسيل عام 1924 بنك «لاتي»، ليساهم فرنسوا باسيل في تأسيس بنك بيبلوس بعدها.
- أسّست عائلة صحناوي مصرفها، ثم أضافت إليه أصول مصارف أخرى في لبنان وفرنسا.
- أسس ريمون عودة «بنك عودة»، واعتُبِر بعدها مصرفاً عالمياً عام 1962.
بالإضافة إلى بنوك وأسماء أخرى، كوّنت القطاع المصرفي في سنوات ما قبل الاستقلال وما بعده، صمدت في عالم المصارف والمال، وتمدّدت إلى الخارج، وشكّلت إحد أعمدة النفوذ المسيحي في لبنان.
وعلى رغم من تبدّل النفوذ السياسي في سنوات الحرب وما بعدها، لم يتبدّل نفوذ المسيحيِّين في القطاع المصرفي، بدليل تقدّم شخصيات سياسية مصرفية عدة في هذا القطاع خلال سنوات ما بعد «اتفاق الطائف».
هل يمكن الخروج من الأزمة؟
تأسس مصرف لبنان المركزي عام 1963 وبدأ العمل رسمياً في نيسان عام 1964، وشهد خلال عمره 61 عاماً انتكاسات بدأت مع انهيار البنك التجاري والبنك العقاري في عام انطلاقة مصرف لبنان المركزي نفسه. وفي عام 1966 حصلت أزمة بنك «إنترا»، وكانت أكبر هزّة مصرفية تشهدها المنطقة.
على رغم من ذلك، استطاع لبنان الخروج من نكباته، عبر إعادة الثقة بالقطاع. ومن هنا تأتي أهمية تركيز الحاكم سعيد على إعادة الودائع، في اعتبارها الباب الأساسي لإعادة الثقة، والفرض على البنوك زيادة رؤوس أموالها، وإلّا ستتعرض للدمج. خصوصاً أنّ مسار الوقائع التاريخية المصرفية التي استعرضناها أعلاه، تفيد بصحة تلك المعادلة لتصحيح الإعوجاج في القطاع المصرفي، وهي مسألة باتت وطنية الأهداف يصرّ العهد الرئاسي الحالي على حصولها، بمساعدة أساسية من مصرف مركزي يتبنّى حاكمه الجديد الأهداف نفسها التي وضعها رئيس الجمهورية.








