

ما حدث في لبنان أمس هو الأخطر منذ توقيع اتفاق وقف النار في تشرين الثاني. وتكتمل المخاطر بتزامنه مع الحدث الجاري في غزة، والذي يُعتبر التطور الأخطر على مستوى الشرق الأوسط منذ سقوط الأسد ووصول الشرع إلى السلطة في سوريا. فقد نزل الناس إلى الشارع بالآلاف، ليطالبوا «حماس» بمغادرة السلطة، بل مغادرة القطاع. وهذا التطور سيبدّل المسارات الإقليمية كلها.
لم تتحمّل «حماس» صدمة نزول الغزيين إلى الشارع رفضاً لها، وهي التي كانت دائماً تحظى بغالبية مريحة في أي استفتاء للرأي. وقد حاولت بشرطتها قمع المتظاهرين، لكن الغارات العنيفة التي دأبت إسرائيل على شنّها ضدّ مقاتلي الحركة وكوادرها أعاقت عمل الشرطة فانكفأت، ما أتاح لمزيد من الغزيين أن يتظاهروا ويطلقوا المواقف الحادة بلا خوف: «حماس تطلع بَرّا».
وعلى الأرجح، تعمّدت إسرائيل شن هذه الغارات لتمكين حركة الاعتراض الغزية من البروز والتنامي، ما يزيد الضغط على «حماس» ويجبرها على الرضوخ للمطالب الإسرائيلية - الأميركية. ولكن، بمعزل عن التخطيط الإسرائيلي المؤامراتي ضدّ غزة، فإنّ الغزيين فجّروا الاحتقان الذي يعتمل في نفوسهم منذ أن نفّذت الحركة عملية «طوفان الأقصى»، وتسببت باندلاع حرب كارثية لم تنتهِ منذ عام ونصف عام.
«راحت سكرة» قتل 1200 إسرائيلي (إذا كان صحيحاً هذا العدد) وأسر 225، في 7 تشرين الأول 2023، وجاءت «الفَكرة»: حتى الآن، 50 ألف قتيل فلسطيني وأكثر من 150 ألف جريح ومعوّق ومفقود، ومئات آلاف النازحين في داخل غزة وخارجها، ومدن وقرى سويت بالأرض ولم تعد صالحة للعيش لسنوات عدة على الأقل.
والأخطر أنّ الأميركيين أطلقوا أوامر صارمة بتهجير أهل غزة إلى مصر والأردن وسواهما، تمهيداً لتحويل القطاع «ريفييرا» ذات أهمية سياحية عالمية على الشاطئ الشرقي للمتوسط. وهذا الزلزال الجيوسياسي الذي يخطط له الأميركيون ويتولّى الإسرائيليون تنفيذه بالنار أحدث أيضاً زلزالاً وجدانياً في داخل المجتمع الغزي، والمجتمع الفلسطيني عموماً، فاستيقظ كثيرون من أوهام لطالما تمّ إغراقهم فيها، تحت شعارات فارغة تكشفت حقيقتها، ولكن بعد فوات الأوان.
كل من كان يوجّه النداء إلى «حماس» لكي توقف حربها، في ظل الاختلال الهائل للتوازن العسكري والسياسي مع إسرائيل، كانت «حماس» وحلفاؤها يطلقون عليه اتهامات بـ«الانهزام» و«الاستسلام»، وحتى بـ»خدمة مصالح العدو وأهدافه»، لإرغامه على السكوت. وكان المخدوعون يصدقون أنّ مطلقي الشعارات الحماسية لاستمرار الحرب هم المخلصون للقضية. ولكن تبين بعدما ذاب الثلج، أنّ هؤلاء «المتحمسين» ارتكبوا أكبر جريمة بحق غزة والقضية الفلسطينية منذ خسارة فلسطين في العام 1948، وأنّهم هم الذين قدّموا خدمات تاريخية لإسرائيل. فعملية «الطوفان» والحرب العبثية سمحتا لإسرائيل بتنفيذ المخطط الذي رسمته لغزة قبل عشرات السنين. وللمرّة الأولى في التاريخ، بدأ الأميركيون يرفعون صراحة شعار تهجير القطاع وكأنّ الأمر بديهي.
على رغم ذلك، لا تكلّف «حماس» نفسها حتى مراجعة ما جرى. وأساساً، ما اعتاد هذا المحور السياسي الاعتراف بالخطأ أو بالهزيمة ولو كانا واضحين ولا لبس فيهما. وهذا الإنكار شائع في العالم الثالث والعالم العربي والدول التي تديرها أنظمة ديكتاتورية أو جماعات. ولذلك، غالباً ما تسقط هذه الأنظمة في شكل مفاجئ، كنمور من ورق. ونظام الأسد نموذج.
والمرحلة التي دخلتها غزة اليوم تقدّم درساً واضحاً إلى النماذج الأخرى المشتبكة مع إسرائيل حالياً في الشرق الأوسط، ولا سيما منها «حزب الله» في لبنان. فمن المثير أنّ الحرب في لبنان تسلك الطريق عينها التي سلكتها حرب غزة، بفارق قصير في التوقيت لا أكثر. فعندما كان يُطلب من «الحزب» أن يوقف حرب المساندة لغزة لئلا تتخذ إسرائيل من ذلك ذريعة وتشن حرباً مشابهة في لبنان، لم يستجب، لكن المخاوف صحّت.
واليوم، يُقال لـ«الحزب»: إذا لم يُسلَّم السلاح إلى الدولة، فإسرائيل ستستغل ذلك ذريعة لاستئناف الحرب والتدمير كما يحدث اليوم في غزة. وربما بدأ ذلك يتحقق بقصف الضاحية الجنوبية لبيروت. ولكن، حتى الآن، ما زال «الحزب» يرفض تسليم السلاح كما ترفض «حماس» ذلك. وكما عادت الحرب بكل قسوتها على غزة، وبلغ الضحايا بضع مئات في يوم واحد، فإنّ لبنان أيضاً ربما بدأ يشهد ملامح عودة مماثلة إلى الوضع الكارثي، والأرجح أنّها ستشمل الضاحية والجنوب والبقاع، كما في الجولات السابقة.
هذا الأمر سيدفع كثيرين في لبنان إلى الطلب بكثافة من «الحزب» أن يستجيب لجهود التسوية، لكن القريبين منه لا يتوقعون نزول شيعة لبنان إلى الشارع، على الطريقة التي نزل فيها الناس في غزة، ولو أنّ «حماس» و»الحزب» يتشابهان من حيث كون كل منهما جزءاً من النسيج المجتمعي، في لبنان أو فلسطين. وفي أي حال، لا بدّ لـ «حزب الله» أن يفكر جدّياً في المخارج بعد اليوم لئلا يسلك الطريق مجدداً إلى الكارثة. وهذه المخارج يُفترض إيجادها في التوقيت المناسب لا بعد فوات الأوان.






.jpg?w=260&h=190&fit=crop)
