

أمّا وقد عيّن مجلس الوزراء كريم سعيد حاكماً لمصرف لبنان بعد اتصالات ومشاورات بين القوى السياسية المحلية، كان للخارج فيها رأي وازن، فإنّ الأنظار تتّجه إلى ما سيُقدِم عليه الحاكم الجديد من إجراءات وتدابير لمواجهة أكبر أزمة نقدية ومالية عرفها لبنان في تاريخه الحديث، وهي واحدة من كبريات الأزمات في العالم.
المصرف المركزي في أي بلد في العالم هو صمّام أمانه، والبوصلة التي تقوده إلى الملاذات الآمنة. وإنّ السياسات النقدية التي رسمها الحاكم السابق رياض سلامة، أدّت بلبنان إلى سحيق الهاوية، وقعر القعر، وإنّ التقارير الدولية من هيئات وشركات تدقيق مالي تؤكّد مسؤولية سلامة المباشرة عن التدنّي الحاد في قيمة العملة اللبنانية وتبخّر الودائع، إذا سلّمنا جدلاً أنّها تآكلت واستُنفِدت، وليست محتجزة، لأنّ لا معلومات رسمية أو على الأقل موثوقة في شأنها.
لكنّ تعيين حاكم لمصرف لبنان خلفاً لرياض سلامه نزيل السجن، ليس نهاية المطاف، بل انطلاقة لمسار جديد يبدأ مع:
أ - تعيين مجلس الحاكمية.
ب - تعيين رئيس لجنة الرقابة على المصارف، وأعضائها.
ج - تعيين مديري الوحدات والدوائر في المصرف.
لكنّ التحدّيات الحقيقية التي يتعيّن على سعيد مواجهتها هي الآتية:
1 - مصير ودائع المواطنين في المصارف اللبنانية. ووضع خطة واضحة تشرح للرأي العام طريقة استردادها، والروزنامة الزمنية التي ستلتزم بها الدولة لإعادة الودائع إلى أصحابها. وقبل ذلك ينبغي التعهّد للمودعين بأنّ أموالهم لن تُشطَب بنسبة عالية، خصوصاً أنّ معلومات قد راجت بأنّ على اللبنانيِّين أن ينسوا أمر الودائع، وأن يفتحوا صفحة جديدة تتلاءم مع الوقائع العملية التي أفرزتها الأزمة المالية المتفاقمة منذ العام 2019 حتى اليوم.
2 - موضوع هيكلة المصارف وإرساء قواعد جديدة تؤدّي إلى استعادة القطاع المصرفي لدوره الذي يعاني من انعدام ثقة اللبنانيِّين به.
3 - استعادة الودائع المهرّبة بعد 17 تشرين الأول 2019، وهناك بيانات موثقة في مصرف لبنان بحجمها وأسماء أصحابها، ومنهم رجال مال وأعمال ومصارف. وكان سبق لمصرف لبنان أن طالب أصحابها بإعادة نسبة مئوية منها، لكنّ المطالبة وقعت على أذن صمّاء.
بطبيعة الحال، فإنّ كريم سعيد الذي يمتلك (C.V) يؤكّد أهليّته وكفايته العلمية والعملية لتبوّؤ هذا المنصب الرفيع والخطير، ليس «سوبرمان» الذي سيستطيع وحده إعادة الأمور إلى نصابها بين ليلة وضحاها. وليقلع فهو بحاجة إلى دعم رئيس الجمهورية (وهو حائز على دعمه)، والانسجام مع الحكومة، وخصوصاً التعاون مع وزارة المال وبالطبع القطاع المصرفي، عدا الدعم الخارجي. وبات معروفاً أنّ سعيد حظيَ بتأييد واشنطن المباشر لتسلّم هذا المنصب، وهو تأييد مهمّ نظراً للدور الرئيس والمقرّر الذي تضطلع به وزارة الخزانة الأميركية في منظومة النقد الدولي. وسينعكس ذلك حتماً على العلاقة المستقبلية بين حاكمية مصرف لبنان وصندوق النقد الدولي.
لكنّ اختيار كريم سعيد بالتصويت حاكماً لمصرف لبنان، وإن كان اختياراً صحياً، لا يخرج على قواعد الدستور، فإنّ عدم تصويت رئيس الحكومة نواف سلام لمصلحته، وإن كان مشروعاً، يدلّ إلى أنّ تعارض وجهات النظر على نحو يؤدّي للاحتكام إلى التصويت، قد يُصيب التضامن الوزاري أحياناً بانتكاسات، في وقت لا تزال البلاد تواجه صعوبات وتحدّيات تطاول سيادته واستقراره.
لكن في مطلق الحالات، فإنّ قطار التعيينات قد غادر محطته متّجهاً إلى هدفه الرئيس وهو ملء الشواغر في الإدارات، واستكمال تعيين الموظفين في المناصب القيادية في الدولة، لمواكبة العهد الجديد في ما ينتظره في قابل الأيام من ملفات ومواضيع هي في مسيس الحاجة إلى الحسم سريعاً لتنطلق عجلة الدولة. وإنّ التصويت في مجلس الوزراء الذي لم يُخالف «اتفاق الطائف»، لا يمكن المراهنة عليه للقول إنّ تعاون رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة مرّ في امتحان، طالما أنّ الاثَنين يقرآن في كتاب واحد هو الدستور.







