

في كل مرّة يتعرّض فيها لبنان إلى حرب، أو يكون مسرحاً لأحداث جسام، يقوم فريق من المسيحيِّين ومعظمهم من غير الحزبيِّين، بطرح خيارات خطيرة تتعارض مع خيارات وتوجّهات، لا الشريك في الوطن فحسب، بل الكنيسة الكاثوليكية والأرثوذكسية، وتحديداً الطائفة المارونية، كونها الطائفة التي حملت راية «دولة لبنان الكبير» وكانت في مقدّم مؤسسيها بقيادة البطريرك مار الياس الحويك الذي قادها في أحلك مراحل تاريخ هذا الوطن الذي تتقاذفه التجاذبات الدولية والإقليمية، وتعبث يَد الخارج بتناقضاته، جاعلة من نعمة التعددية والتنوّع ودورهما في صوغ فلسفة التآخي الإنساني نقمة.
لم تتخلَّ بكركي عن رسالة الحويك في لبنان الواحد الموحّد، ومركزية الدولة، لا الإدارة فيه. وهذا ما عبّر عنه البطاركة الذين تعاقبوا على سدّتها من: مار أنطون عريضة الذي كان أحد أركان الاستقلال والداعمين لدولته، إلى مار بولس المعوشي الذي وقف ضدّ الأحلاف شرقاً وغرباً، فمار أنطونيوس خريش الذي واجه موجةً عاتية وضغطاً هائلاً لإرغامه على توقيع بيان يدعو فيه إلى قيام الدولة المسيحية، فخلفه مار نصرالله صفير الذي نسج على منواله، مصرّاً على أنّ مقاومته للأوضاع القائمة طوال فترة حبريته تنطلق من مبدأ وطني لا جدال فيه: «لبنان واحد لا يتجزّأ ولا ينقسم».
ولم تخرج مواقف مار بشارة الراعي يوماً عن الثوابت، وإنّ دعوته إلى «الحياد الإيجابي الناشط» لا تخرج عن مظلة الحويك الماهد والباني لمدماك الدولة الموحّدة منذ انطلاقتها في العشرين من أيلول 1920. من هنا، فإنّ الاجتماعات التي تُعقَد هنا وهناك وتضمّ مجموعة من الناشطين السياسيِّين والأكاديميِّين، لا تُعبّر عن توجّهات النُخَب المسيحية الفاعلة والمؤثرة. وإنّ هناك مَن سبق له أن طرح «الدولة الاتحادية» وطوى هذا الطرح عندما أصبح وزيراً بعدما رأى «أنّ الدرب دونه»، فقرّر أن يلتحق بـ«قيصر» الواقع، بدلاً من أن «يطرب» لـ«قيثارة الأحلام».
قد يكون وراء ما صدر من مواقف تُروّج لـ«الفدرلة» أسباب لها علاقة بمصالح آنية تتوهّم أنّها ستكون متاحة بعد اجتماعات عُقِدت في الخارج فُهِمَت مقاصدها خطأ. هذه الاجتماعات تحدّثت عن حماية الوجود المسيحي في لبنان الواحد، الموحّد، لا «الفدرالي». لكن ذلك لا يعني أنّ المسيحيِّين لا يَعيشون قلقاً على مصيرهم في لبنان، كما الدول المجاورة التي تكاد تخلو منهم.
فعنصرية إسرائيلية وافدة من الحدود الجنوبية قامت بـ«واجبها» في اقتلاع مسيحيّي فلسطين من أرضهم، وخطر تكفيري بتسميات مختلطة مستنفر إلى أقصى درجات الاستنفار على الحدود مع سوريا شرقاً وشمالاً، بعد سقوط نظام بشار الأسد. لكن هل يكون الحل بإقامة دُوَيلة طائفية، أو تبنّي «الفدرالية» أو استدراج حماية خارجية؟ وأي من هذه الخيارات صعب المنال، وغير قابل للتحقيق، وإن تحقق لفترة وفي غفلة عن الزمن، لن تتوافر له أسباب الاستمرار والحياة. على أنّ مسؤولية التصدّي لهذا القلق وتجاوزه تقع على عاتق الدولة التي يتعيّن عليها رعاية حوار وطني واستكمال وثيقة الوفاق واتخاذ كل التدابير والإجراءات المؤدّية إلى إرساء دولة المواطنة والقانون بعيداً من زواريب السياسة الضيّقة. والرهان على رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون في أن يتمكن من تبديد الهواجس التي يعمل البعض على إشاعتها وتخويف الناس لأسباب سياسية أو مصالح أخرى. وقد يكون المؤتمر الوطني الشامل هو الخطوة الأولى في رحلة الألف ميل، لما قد ينتج منه من عقد وطني واجتماعي يؤسس لمستقبل واعد وأكثر استجابةً لآمال اللبنانيِّين وهواجسهم.
في أي حال، فإنّ أي تجمّع أو محاولة لتسويق طرح أو صيغة لا تنطلق من مُسلّمة دولة لبنان الكبير الموحّد، هي مجرّد «فانتازيا» فكرية ذات طابع نظري لن تُبصِر النور.








