
الصواريخ «المجهولة» التي انطلقت من الأراضي اللبنانية للمرّة الأولى منذ اتفاق وقف إطلاق النار شكّلت محط اهتمام ومتابعة وتمحيص للأطراف المحلية والدولية على السواء. صحيح أنّ إسرائيل تعمد يومياً إلى تجاوز الإتفاق الذي عُقد وتُمعن في أعمال خرق وقف إطلاق النار وترفض إنجاز الإنسحاب الكامل بما يتعارض مع ما جرى التفاهم حوله، إلّا أنّ التركيز الذي حصل حيال إطلاق الصواريخ البدائية مردّه إلى الرسالة التي حملها في هذا التوقيت بالذات، والجهة الحقيقية التي تقف خلفها.
وبغض النظر عن التحقيقات الدائرة لاكتشاف كل الملابسات والخلفيات وهوية مطلقي الصواريخ الستة، إلّا أنّ للأوساط الدولية، والتي تولي الساحة اللبنانية أهمية كبيرة، قراءتها السياسية الخاصة. وهي تعمد من جهتها لوضع تفسيرها السياسي للمعطيات التي ظهرت حتى الآن. فالصواريخ البدائية تهدف للقول بأنّ الجهة ليست محترفة ولا على مقدارٍ عالٍ من التسليح والحرفية. أو بمعنى أوضح أنّ الجهة قد تكون من مجموعة قتالية «متحمسة» أكثر منها قوة منظّمة ومجهّزة. لكن الأوساط المراقبة تقرأ في هذه الناحية وجود سعي مقصود للتمويه وتشتيت الأنظار، بدليل أنّ هذه المجموعة «المتحمسة» كانت لتقع فوراً بقبضة القوى العسكرية المنتشرة في المنطقة قبل إتمام العملية أو بعده. فالحماسة تدفع عادة إلى ارتكاب الأخطاء، وهو ما لم يحصل. ولكن حتى ولو اعتُقل لاحقاً «متحمس» فإنّ السؤال الأساسي يبقى حول الآمر الفعلي، لا الذين تولّوا عملية الإطلاق.
كذلك فإنّ لاختيار منطقة شمال الليطاني معناه الواضح بأنّ السلاح حتى البدائي منه لم يعد متوافراً جنوب الليطاني، أما شماله فالحسابات والمعادلات مختلفة. ولا حاجة لاستعادة شريط المواقف حول شمول بنود قرار وقف النار ونزع السلاح شمال الليطاني كما هو حاصل مع جنوبه.
وثمة فرضيات عدة تمّ وضعها حول هوية الجهة الآمرة. فهنالك من وجّه أصابع الإتهام إلى إسرائيل كونها المستفيدة الأولى لجهة امتلاكها الذرائع التي تبرّر لها مواصلة اعتداءاتها اليومية على لبنان. وهذا الإستنتاج منطقي. لكن ثمة أولويات أخرى ستجعل نتنياهو متضرّراً من الصواريخ. فهو يعيش واقعاً داخلياً صعباً، خصوصاً مع عودة التظاهرات، واتهامه بالفشل في تحقيق أهداف الحرب على غزة، إضافة إلى عدم إزالة خطر «حزب الله»، ما أدّى إلى إحجام سكان مستوطنات الشمال عن العودة إلى منازلهم رغم وقف إطلاق النار. وتأتي الصواريخ لترفع من منسوب قلق هؤلاء ولتزيد من مقدار معارضتهم لنتنياهو، وهو ما ظهر لاحقاً.
أما الفرضية الثانية فأشارت إلى احتمال أن تكون المجموعة تنتمي إلى إحدى الفصائل الفلسطينية، كردّ لها على المجازر المفتوحة في غزة وعلى استئناف إسرائيل لحربها التدميرية. لكن المخيمات الفلسطينية تبدو بعيدة نسبياً عن مكان الصواريخ. أضف إلى ذلك، أنّه بات للدولة اللبنانية أعين مراقبة قوية داخل المخيمات. كذلك فإنّ التحرّك خارج المخيمات لم يعد سهلاً وسط بيئات لبنانية عانت من ويلات الحرب وباتت حساسة جداً تجاه أي عمل أمني «غير لبناني»، إذا لم يكن منسقاً مع أطراف لبنانية. وعدم اعتقال أياً من المنفذين، إنما يضعف هذه الفرضية.
أما الفرضية الثالثة فتتحدث عن مسؤولية فريق أو فصيل تابع لـ«حزب الله»، لكنه بات يعمل خارج نطاق القيادة، بسبب صعوبة التواصل معها، وهو ما حصل مع المجموعات القتالية في الجنوب خلال الحرب والتي استمرت في قتالها ضمن مجموعات غير مترابطة ومن دون التواصل مع القيادة بسبب ظروف المعركة والضربات التي أصابت وسائل التواصل العسكري وجعلت ما تبقّى منها عرضة للرقابة الإسرائيلية. وعلى رغم من قرار وقف إطلاق النار إلّا أنّ «حزب الله» لا يزال يعيش الوضع وكأنّ الحرب لا تزال قائمة، بدليل الغارات المستمرة والقصف والإغتيالات، وهو ما أبقى الواقع العسكري على حاله لناحية عدم إعادة تنظيمه. وقد يكون هذا الواقع صحيحاً لكن مع فارق أنّ كافة قطاعات «حزب الله» بات يشرف عليها بشكل مباشر خبراء من الحرس الثوري الإيراني، خصوصاً بعد الضربات التي تلقّتها قيادات الحزب وجعلته يفقد كوادره القيادية. وبالتالي فإنّه يصعب تصور وجود هذا الهامش لأي مجموعة من «حزب الله»، إلا إذا كان بضوء أخضر من طهران. وهنا تتركّز استنتاجات الأوساط حول معاني الرسالة الإيرانية.
فبعد تراجع الأعمال الحربية أجرت الدوائر الغربية المعنية قراءة كاملة حول نتائج الحروب التي حصلت، والتي هدفت إلى ضرب نفوذ إيران خارج حدودها. ووفق هذه القراءات فإنّ الضربة الكبرى التي تلقّتها طهران كانت باغتيال الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله. فلقد ظهر الفراغ الكبير الذي خلّفه غيابه، ليس فقط على المستوى اللبناني بل أيضاً على مستوى المنطقة ومحور المقاومة ككل. فمع غياب نصرالله غابت جاذبية الكاريزما التي كان يتمتع بها مصحوبة بالنبرة القوية. وجسّدت إطلالاته هيبة القائد التي تشدّ أنظار وآذان متابعيه، وتشحن معنوياتهم وترفعها، وتحول أي جهد أو حتى خسارة إلى انتصار. وهذا ما اضطر مرشد الثورة علي خامنئي لتكرار إطلالاته وهو ما لم يكن يفعله سابقاً. وفي هذا التكرار خشية من استهلاك صورته كقائد أعلى لهذا المحور. وبالتالي، فإنّ الخطب الحازمة والمعبّرة والتي كانت تختزن الرسائل المطلوبة لم تعد قائمة. وليس سراً أنّه بعد كل خطاب لنصرالله كانت الدوائر الغربية تعمد إلى إجراء تحليل وتمحيض لاستخلاص الرسائل المطلوبة. وهذا الأمر لم يعد قائماً الآن. ولأنّ الأسابيع الماضية حفلت بأحاديث عن ترتيبات يجري تحضيرها للبنان إنطلاقاً من الجنوب، فإنّ المراقبين يقرأون في رسالة الصواريخ «البدائية» لكن المشغولة والمنفّذة بحرفية عالية، بأنّ تجاوز المعطيات والمعادلات الميدانية الحقيقية القائمة يبقى في إطار القراءة الخاطئة. واستتباعاً فإنّه على أبواب المفاوضات بين واشنطن وطهران وفق العناوين الثلاثة المطروحة فإنّ عدم الإلتفات إلى كل زوايا الصورة سيجعل المشهد غير واضح في المستقبل.
وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ توقيت إطلاق الصواريخ الخمسة يتزامن مع تحضير اللجان الثلاث التي ستتولّى التفاوض مع إسرائيل حول الإنسحاب والأسرى والحدود البرية، وفي الوقت عينه تتزامن أيضاً مع المفاوضات السرّية الجاري الحديث عنها بين واشنطن وطهران، والتي تشمل عناوين ثلاثة وهي، النووي والصواريخ و»أذرع» إيران في المنطقة.
أما الردّ الإسرائيلي والذي جاء هستيرياً بالنار ولكن مضبوطاً بالمعنى الجغرافي للكلمة، إنما أعطى إشارة واضحة بأنّ السقف الأميركي لا يسمح الآن بالعودة إلى النزاع المفتوح. فبخلاف تهديد وزير الدفاع الإسرائيلي فإنّ الغارات الإسرائيلية تركّزت على الجنوب والبقاع الشمالي ولم تشمل الضاحية الجنوبية وبيروت. ما يعني أنّ ثمة ظرفاً تفاوضياً لا يجب التشويش عليه، وهو ما يعزز فرضية أنّ ترامب يسعى لتفاهمات عبر المفاوضات لا عبر الحرب، والتي يستخدم مفرداتها للتهويل لا للتطبيق.
تبقى نقطة أخيرة ولكن في منتهى الأهمية، وتتعلق بالأضرار التي طاولت السلطة اللبنانية، إلى درجة يصح معها القول إنّه صحيح بأنّ وجهة الصواريخ كانت في اتجاه المستوطنات الشمالية الإسرائيلية لكنها فعلياً انفجرت في بيروت. وقد يكون تشظي السلطة اللبنانية أحد أهداف الصواريخ. فهذه السلطة الفتية قامت على معادلة جديدة لمعطيات النتائج التي ترتبت عنها الحرب. وبالتالي فإنّ معادلة الحكم اليوم تختلف بمقدار كبير عن معادلة الحكم في الأمس. والإستنتاج هنا يصبح واضحاً. فهذه السلطة أنجزت لتوها تعيينات عسكرية لا تتوافق مع الأعراف والأساليب التي كانت قائمة في الأمس. كما أنّ خطابها الرسمي «غريب» عمّا درجت عليه الأمور طوال المراحل السابقة. وهي تستعد لانتخابات بلدية ستجري على مراحل أربع، تبدأ الأحد في الرابع من أيار لتنتهي الأحد في 25 منه. والأهم أنّ مرحلتها الأخيرة والتي تصادف يوم «عيد التحرير» ستكون مخصصة للمناطق الجنوبية. وهي تركت للمرحلة الأخيرة لكي تكون الأمور قد اكتملت على المستوى اللبناني وأصبحت أكثر وضوحاً على مستوى الأوضاع الجنوبية.
أما بيروت، فستكون انتخاباتها في المرحلة الثالثة، خصوصاً أنّه حتى الآن لم تحصل أي ترتيبات أو خطوات لضمان توازناتها الحالية. وهذا ما ينتظره أو يتمناه كثر لصرفه وتسييله في السياسة والمعادلة التي قامت. فعلى مستوى المجلس النيابي، لم يلحظ الجدول أي مشروع قانون جديد يضمن الواقع، ولا حتى على مستوى الخطوات التحالفية لم تظهر هذه الجهود، مع العلم أنّ الرئيسين رفيق الحريري ومن بعده سعد الحريري كانا يبذلان جهوداً خاصة لضمان التوازنات المطلوبة، وهو ما لم يظهر بعد.
أما بالنسبة للإنتخابات النيابية وقانونها، فلا شيء يشي باحتمال حصول حركة جدّية لتعديل القانون القائم، إلّا بالنسبة لإجراء تعديل دائم يسمح للمغتربين بالاقتراع للوائح على مستوى الوطن كما حصل في الدورتين السابقتين.
أما بخصوص «الميغاسنتر» فهنالك صيغتان. الأولى، والتي تمنح الحق لكل لبناني بالاقتراع أينما كان مكانه، لكن هذه العملية تحتاج لوقت طويل لتحضيرها وترتيبها، والوقت هنا لم يعد يسمح. والثانية، اعتماد الصيغة على غرار ما يحصل مع اقتراع الإغتراب، أي وفق التسجيل المسبق. وفي هذه الحالة فإنّ الإمكانات والوقت يسمحان باعتماد هذه الصيغة.
ومن هنا، يرى البعض أنّ رسالة الصواريخ الخمسة قد لا تكون الأخيرة. هنالك من يرى أنّ الوصول الى إنجاز الإنتخابات البلدية وبعدها النيابية بنجاح، إنما سيعني ترسيخ بنية تحتية إنمائية وسياسية جديدة، تتجانس مع المعادلة العريضة القائمة على مستوى السلطة.





.png?w=260&h=190&fit=crop)

