

في كل يوم، تظهر ملامح تحوّلات جديدة يمكن اعتبارها جزءاً من التغيير الجيوسياسي الكبير الذي يتّجه إليه الشرق الأوسط، انطلاقاً من «الوعد» الذي أطلقه بنيامين نتنياهو قبل نحو عامين، بإعادة إنتاج الشرق الأوسط بكامله. وقد أعاد التذكير بهذا «الوعد» قبل يومين.
بل أشهر من الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة، تعمّد نتنياهو إبطاء العمليات الحربية في غزة ولبنان. أولاً لأنّه أراد إعطاء الجيش استراحة نسبية بعد أشهر عاصفة من القتال. وثانياً لإرضاء جو بايدن الذي كان يحرص على إبقاء الحرب ضمن ضوابط معينة. وثالثاً، وهذا هو الأهم، لأنّه راهن على وصول دونالد ترامب، ما يمنحه فرصة نادرة لتنفيذ ما يريد، في مدى 4 سنوات على الأقل.
وهذا المشروع لم يعد خافياً، ويمكن اختصاره بـ»الشرق الأوسط الجديد» الذي تحدث عنه كثير من القادة الإسرائيليين، ومنهم شيمون بيريز في كتابه الذي يحمل التسمية إياها، في العام 1993، وهو يحمل تصوراً للسلام في المنطقة مبنياً على المصالح الاقتصادية المتبادلة.
وفي شباط 2004، أي في العام التالي لحرب العراق، أعلنت إدارة جورج بوش تبنّيها مشروع «الشرق الأوسط الكبير»، وأساسُه إنشاء منظومة سلام بين دول الإقليم، تقوم على الليبرالية والديموقراطية ونبذ التطرّف والإرهاب. وفي حزيران من العام عينه، تبنّت الدول الصناعية الثماني هذا المشروع، وتعهّدت العمل دولياً على تحقيقه. ولا ينسى اللبنانيون قول وزيرة خارجية الولايات المتحدة كوندوليزا رايس، غداة حرب تموز 2006، إنّ ما يجري هو «المخاض المؤلم» الذي سيؤدي إلى ولادة الشرق الأوسط الجديد.
ولكن، في الواقع، يلفّ الغموض هذا المصطلح، بين «جديد» و»كبير». وعلى الأرجح هو يكشف عن رغبة الأميركيين والإسرائيليين في تغيير الواقع الجيوسياسي الحالي للإقليم، لكن أياً من الطرفين لم يحسم تماماً رؤيته الخاصة حول المضمون. والأمر يبقى موضع تجاذب ونقاش دائم بين الحكومات الإسرائيلية والإدارات الأميركية المتعاقبة لبلورة تقاطعات حوله.
في ولايته السابقة، كلّف ترامب خمسة من كبار الباحثين، القريبين جداً من إسرائيل، وعلى رأسهم صهره جاريد كوشنير، إنتاج مشروع «صفقة القرن» الذي يقوم على ركيزتين أساسيتين: حسم الملف الفلسطيني وفق رؤية إسرائيل، وتعميم التطبيع بينها وبين العرب. ولم يسمح الوقت لترامب باستكمال خطواته، لأنّه فشل في تجديد الولاية. لذلك، هو يبدو مستعجلاً جداً اليوم.
يريد ترامب أن يحقق في كل شهر ما كان يستغرق تحقيقه عاماً كاملاً. وهذا يفسّر الإنذارات والمهل التي وجّهها إلى «حماس» و»حزب الله» والحوثيين وإيران في آن معاً. بل إنّه منح إسرائيل تغطية للتصرّف عسكرياً وفق ما تراه مناسباً، في غزة ولبنان، وطلب منها أن توفر عن نفسها عناء ضرب اليمن ولو تعرّضت للصواريخ البالستية، لأنّ القوات الأميركية ستأخذ هذا الأمر على عاتقها.
ويعتقد الخبراء أنّ الولايات المتحدة وإسرائيل ستتقاربان في الرؤية إلى ما يسمّى «الشرق الأوسط الجديد». وهذا التقارب سيقوم على اعتراف كل طرف بطموحات الآخر ومصالحه الحيوية. فواشنطن ستدعم أحلام إسرائيل في حسم الملف الفلسطيني لمصلحتها، وإزالة أي خطر قد تتعرّض له من جانب حلفاء إيران أو تركيا أو أي كان، وفي التأسيس لتطبيع سياسي واقتصادي مع العالم العربي بكامله. على أن تكون المنطقة كلها، بمواردها وأنظمتها، تحت رعاية الولايات المتحدة.
هذا يعني أنّ المنطقة ستشهد التطورات الآتية:
1- ضغط أميركي على الفلسطينيين لكي يرضخوا لإسرائيل، في غزة والضفة الغربية.
2- إطلاق يد إسرائيل على حدودها الشمالية.
3- إضعاف إيران ومنعها من استكمال قدراتها النووية في المجال العسكري، وإنهاء نفوذها في دول المنطقة، من لبنان وسوريا إلى العراق واليمن.
4- استئناف جهود التطبيع لتشمل دولاً عربية.
هذه الأهداف الأربعة تتقاطع عليها إسرائيل والولايات المتحدة، ضمن رؤية كل طرف إلى مستقبل الشرق الأوسط. لكن بعض الخبراء يعتقدون أنّ طموح الإسرائيليين يتجاوز ذلك. فهم يتحدثون عن أهداف أخرى ربما تكون بعيدة المدى، وتتمثل بإعادة رسم الخرائط في المنطقة، أي إنهاء مرحلة سايكس ـ بيكو والتأسيس لمرحلة جديدة على أنقاضها.
يخشى البعض أن تكون سوريا في صدد التوزع طائفياً وعرقياً. وإذا حصل ذلك، فلا أحد يضمن عدم تعرّض العراق والأردن، وربما لبنان، لاهتزازات لاحقاً.
ويجدر التذكير هنا بتحذير الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قبل نحو أسبوعين، من وجود قوى تحاول زعزعة استقرار سوريا بإثارة النعرات الدينية والعرقية، وقوله إنّ تركيا «لن تسمح بتقسيم المنطقة أو إعادة رسم حدودها». وكان أردوغان أعرب عن شكوكه في أنّ مؤامرة اللعب باستقرار الكيانات الإقليمية يشمل تركيا أيضاً.
ويربط الخبراء بين هذه النظرة وبين ما بدأت تركيا تشهده من تطورات، على خلفية توقيف رئيس بلدية اسطنبول، منافس أردوغان المحتمل في موقع الرئاسة، أكرم إمام أوغلو، بتهمة زعزعة الاستقرار، بالتواطؤ مع تنظيم معادٍ. وهذا التوتر يثير الهواجس من وجود مخطط لإضعاف تركيا التي مدّت نفوذها إلى داخل سوريا، كما تمّ إضعاف النفوذ الإيراني.
هذا فحوى ما يريده الإسرائيليون للشرق الأوسط: دولة واحدة قوية، تحوطها دول طائفية وعرقية يخاف بعضُها بعضاً، وفي منأى عن أي طموحات إمبراطورية فارسية أو عثمانية. وأما الراعي الدولي لهذه المنظومة فهو الولايات المتحدة التي ستقطف الثمار كلها، مع بعض الحلفاء القلائل الذين مَن يمكن أن تبرم الصفقات معهم، على أدوار صغيرة محدودة.








