

يؤدّي الممثلان دور زوجَين جاسوسَين لامعَين، في أحدث تعاون أنيق بين المخرج ستيفن سودربيرغ وكاتب السيناريو ديفيد كويب.
Black Bag هو ثالث فيلم يكتبه ديفيد كويب ويُخرجه ستيفن سودربيرغ منذ عام 2022، وهو عمل مذهل. إنّه أيضاً أنيق، بارع، ومضبوط بإحكام، ولغز ممتع ومثير عن جواسيس رائعين يقومون بأشياء استثنائية لا يقرأ عنها معظمنا إلّا في الروايات - أو إذا كنا محظوظين - نشاهدها على الشاشة.
إنّه هراء، لكنّه ذلك النوع المجيد الموجّه إلى البالغين الذي يُحبّ النقاد القول إنّ «هوليوود» لم تعُد تصنعه. وهذا صحيح إلى حدٍ كبير، على رغم من وجود استثناءات مثل كويب وسودربيرغ، حتى لو كانا غير تقليديَّين بدرجة تجعل من الصعب تصنيفهما كأعمال هوليوودية نموذجية.
في هذا التعاون الأحدث، تلعب كيت بلانشيت ومايكل فاسبندر دور كاثرين وجورج. يعيشان حياة زوجية دافئة وسعيدة في منزل مستقل فخم في لندن، حيث يقضيان ساعات طويلة مليئة بالأحداث أثناء عملهما لدى وكالة الاستخبارات البريطانية، مقر الاتصالات الحكومية.
بصفتهما جاسوسَين، فإنّهما يُجسّدان تماماً الأدوار المنوطة بهما، أو على الأقل النسخ الخيالية منها: فهما ماكران، أنيقان، وغامضان تماماً كما يوحي عنوان الفيلم. لكن على عكس نظيرهما الشهير جيمس بوند (الذي يعمل في MI6)، فإنّهما يقضيان وقتاً طويلاً في المكتب. داخل برج زجاجي، يُراقِبان ويخضعان إلى المراقبة بدورهما، يتتبّعان الأعداء، وأحياناً يقضيان عليهم.
تدور الحبكة حول تهديد خطير متمثل في برنامج خبيث يُدعى Severus، على الأرجح سُمِّي تيمّناً بالإمبراطور الروماني المستبد. يبدو أنّ هناك جاسوساً داخل الوكالة، وجورج واحد من بين قلة مكلّفة بتحديد هويّته. لديه قائمة بـ5 مرشحين محتملين، جميعهم يعملون في المناصب العليا داخل الوكالة. ومن بين المشتبه فيهم - مفاجأة! - كاثرين.
وبما أنّ هذه ليست مشكلة يمكن أن يناقشها جورج مع مستشار زواج - حتى لو كان إحدى الشخصيات الرئيسة طبيباً نفسياً في الوكالة - فإنّه يفعل ما تدرّب عليه: يتجسّس عليها. وهنا تُصبح الأمور معقّدة. كما تُصبح مضحكة وعنيفة بشكل متوقع، فتدور بعض أكثر المشاهد حدةً وشراً حَول مائدة العشاء العائلية.
كويب وسودربيرغ بارعان في استغلال النوع السينمائي، وBlack Bag يأتي ضمن هذا الإطار تماماً. لكل منهما مجموعة واسعة من الأعمال (كما يعمل كويب أيضاً كمخرج)، وكان آخر تعاون لهما في فيلم الرعب Presence الذي صدر في وقت سابق من هذا العام. وإذا كان الاثنان يتألّقان في أفلام الإثارة، فذلك جزئياً لأنّ الحبكات المشوّقة تمنح صنّاع الأفلام مساحة لدفع القواعد إلى أقصى حدودها وحتى التخلّي عنها. فيلمهما KIMI، هو مثال آخر على عمل منضبط ضمن هذا النوع السينمائي، حيث يتبنّى القواعد ويُفجّرها في آنٍ. تتعدّد تأثيراته، وتشمل أفلاماً عن نساء محاصرات بالإضافة إلى أفلام الإثارة البارانوية من السبعينات مثل The Conversation وThree Days of the Condor، وهي نقاط مرجعية تُلاحَظ أيضاً في Black Bag.
من خلال نظّارات جورج الأنيقة والقمصان ذات الياقات العالية، يبدو أنّ صنّاع الفيلم استلهموا بعض التفاصيل من أفلام مايكل كين القديمة أيضاً. لا يمتلك فاسبندر سحر كين، كما أنّه أقل إقناعاً كشخصية رومانسية.
يحتوي Black Bag على العديد من اللحظات المبالغ فيها عمداً، بعضها مضحك للغاية، لكن من بين أقل عناصر الحبكة إقناعاً هو الولاء المزعوم بين جورج وكاثرين لبعضهما البعض.
على الشاشة، يمتلك فاسبندر، وخصوصاً بلانشيت، هالة من الغموض تجعل من المستحيل صرف النظر عنهما، لكنّها في الوقت عينه قد تُشعِر المشاهد وكأنّهما معزولان عن الأشخاص العاديِّين. إنّهما يجذبانك نحَوهما، لكن، على عكس براد بيت مثلاً، لا يدعوانك للدخول إلى عالمهما.
سواء كانت هذه الشكوك حول علاقة جورج وكاثرين مقصودة أم لا، فإنّها تعمل بشكل جيد في فيلم يُثيرك بالأسرار والأسلحة، والتنقّل عبر الحدود والتضليل، ويكتمل بطاقم دعم مثالي يشمل ريجي-جان بيج، نايومي هاريس، توم بيرك، وماريسا أبيلا.
حتى مع تصاعد القصة وازدحامها بالشخصيات، يظل جورج علامة الاستفهام المركزية في الحبكة. يدخل الفيلم وكأنّه هنري هيل يتجوّل في الملهى الليلي في اللقطة الطويلة الشهيرة في Goodfellas، وهو مشهد يوحي بذكاء أنّ جورج لا يمكن الوثوق به. قد يكون مغرماً بكاثرين، لكن هناك شيئاً «بارداً وغير إنساني» فيه أيضاً، كما كتب جون لو كاريه عن جاسوسه الشهير، جورج سمايلي.
سودربيرغ مخرج يتميّز بالكفاءة الفائقة، وهو ما يتجلّى في وضوح اختياراته البصرية شبه الهيروغليفية وفي عملية المونتاج التي يقوم بها بنفسه.
من بين الإضافات في فيلمه Erin Brockovich عدد من المشاهد التي حذفها من النسخة الأولى أثناء تعديل الفيلم ليصل إلى الكمال. هنا، عندما يتوقف سودربيرغ للحظة وهو يتابع كاثرين وهي تعبُر ساحة ما، فإنّ ذلك ليس فقط لنقل الشخصية من النقطة A إلى النقطة B. قد تكون جاسوسة، لكن هناك جانباً استعراضياً ساخراً في شخصيّتها.
طوال Black Bag، يستمتع سودربيرغ برومانسية وجاذبية عالم التجسس. تنفجر القنابل ويفقد الناس حياتهم، لكنّ العنف هنا مجرّد إلهاء بصري لامع، بعيد كل البُعد عن وحشية القوة الحقيقية والسياسة الدولية في العالم الواقعي.
شخصيات هذا العالم لا تتسخ أبداً؛ فعندما تظهر بقعة على قميص جورج الأبيض المثالي والمكوي بعناية، كل ما عليه فعله هو تغييره. هكذا تسير الأمور بالنسبة إليه ولزوجته، اللذَين يتمتعان بالأناقة والبريق. وعندما يظهر بيرس بروسنان، قد تجد نفسك تضحك على هذه المتعة السينمائية. وقد تجد نفسك أيضاً تأمل بحماس أنّه عندما يحين وقت إعادة إحياء سلسلة جيمس بوند، سيكون لدى أحدهم الذكاء الكافي للاتصال بكويب وسودربيرغ.







.jpg?w=260&h=190&fit=crop)
