أبعدُ من الدولة الدرزية وهواجس التقسيم
أبعدُ من الدولة الدرزية وهواجس التقسيم
اخبار مباشرة
طوني عيسى
Tuesday, 04-Mar-2025 07:14
عندما كان بعض المفكّرين العرب يسلّطون الضوء على أطماع إسرائيل التاريخية، ويكشفون بالأدلة نيتها تفتيت كيانات الشرق الأوسط على أسس دينية وعرقية، كان البعض يسخر منهم ويقول: هؤلاء أصحاب تفكير «خشبي» و»مؤامراتي». فهل كان ضرورياً أن يدفع لبنان وسوريا وغزة والضفة الغربية هذه الفاتورة المريعة ليقتنع «النائمون» بأنّ المشروع الإسرائيلي موجود، بل أصبح حيز التنفيذ، وعلى نار حامية؟

ليس عبثياً أن يهدّد بنيامين نتنياهو بضرب نظام الحكم في سوريا، وبالدخول براً إلى مشارف دمشق، إذا تجرأ هذا النظام على استهداف الدروز السوريين في جرمانا أو السويداء أو أي منطقة أخرى. فالتهديد الإسرائيلي جدّي إلى حدّ كبير. بل إنّ حكومة نتنياهو تتمنى أن تستفزها حكومة الشرع بعمل عسكري في جرمانا، ليكون لها المبرر، فتأمر قواتها بالتوغل مسافات جديدة في عمق الأراضي السورية.

 

في أي حال، ومن دون الحاجة إلى تبرير، نفّذ الإسرائيليون حتى اليوم خطوات متسارعة في سوريا، بعد سقوط نظام الأسد. فبعدما ضربوا كل المقدرات العسكرية للسلطة على امتداد الأراضي السورية، أمسكوا بقمم جبل الشيخ، ووسعوا المنطقة العازلة، وفرضوا نفوذهم حتى مشارف ريف دمشق، ومنعوا السلطة من تجاوز خط دمشق جنوباً. ثم بدأوا يسهلون إدخال أبناء القرى الدرزية إلى إسرائيل للعمل، وتمّ إغراؤهم برواتب عالية. ونصّبت حكومة نتنياهو نفسها حامية للأقلية الدرزية.

 

ما تعمل له إسرائيل في الواقع هو خلق منطقة سيطرة لها تصل حتى مشارف دمشق. وهناك من يعتقد أنّها من خلال تثبيت المنطقة الدرزية في الجنوب تريد توفير الدعم اللازم لتثبيت المنطقة الكردية في الشمال، على أن يتمّ الربط بينهما بمعبر ضيق يحاذي الحدود السورية- العراقية، سمّاه الإسرائيليون «ممر داود». وبهذا الوضع سيكون الإسرائيليون قد أحكموا حصارهم غرباً على سوريا وشرقاً على العراق ولامسوا حدود تركيا. ولكن، حتى الآن، ليس واضحاً اتجاه الحدث الكردي، بعد الدعوة التي وجّهها عبدالله أوجلان قبل أيام، من سجنه التركي، إلى رجاله لكي يرموا السلاح. فالأمر هناك ربما يتعلق أيضاً بمقايضات يعقدها الأميركيون مع الأتراك، تماماً كما أنّ مصير المنطقة العلوية مرهون بالمقايضة مع الروس، ما يسمح لهم بالحفاظ على القاعدتين العسكريتين في الساحل. لكن ما يبدو محسوماً في سوريا هو أنّ المحافظات الجنوبية الثلاث، درعا والقنيطرة والسويداء، باتت أكثر فأكثر تحت سيطرة إسرائيل الحصرية، ووسط صمت إقليمي ودولي واضح.

 

الذريعة التي يستخدمها الإسرائيليون لادعاء «الخوف» على الأقليات في سوريا هي أنّ الرئيس السوري أحمد الشرع آتٍ من مختبره الإسلامي، أو الإرهابي في «جبهة النصرة». وصورة «الإسلام المتطرف» أو «الإرهابي» هذه هي نفسها التي يستغلها الإسرائيليون في النزاع مع «حماس» في غزة، ومع النظام الإسلامي في إيران و»حزب الله» في لبنان. وفي الواقع، تبدو إسرائيل مرتاحة إلى خوض الحروب مع تنظيمات ترفع رايات الإسلام السنّي والشيعي بدلاً من الرايات الوطنية، لأنّها تريد إضفاء الطابع الديني على النزاع الذي تخوضه مع الفلسطينيين والعرب.

 

فالمشروع الإسرائيلي العقائدي يقوم على أساس ديني، وقوامه يهودية الدولة أولاً، وتوسيعها لخلق «إسرائيل الكبرى» ثانياً. وطبيعة النزاع السائدة حالياً، من لبنان إلى سوريا فالأراضي الفلسطينية تخدم تماماً أهداف إسرائيل، إذ ليس هناك أفضل من الغرائز الدينية لطمس الهوية الوطنية الفلسطينية وإنعاش العصبيات والعناوين الدينية والطائفية في كيانات الشرق الأوسط وتبرير الدولة اليهودية التي تعمل لفرضها. وفي الأساس، هي تتوق إلى إنهاء مقاومة الفلسطينيين وتصفية قضيتهم الوطنية وتذويبهم في أطر أخرى.

 

ويعتقد القريبون من السلطة الفلسطينية أنّ مجرد رفع «حماس» عنواناً دينياً في النزاع مع إسرائيل هو أمر كارثي للقضية، وأنّ عنوان الحرب الذي اختارته «حماس»، في خريف 2023، أي «طوفان الأقصى»، والذي يحمل رمزيات دينية صرفة، جاء مناسباً تماماً لمصالح إسرائيل. فهو يبرر الأهداف العقائدية والدينية لتهويد فلسطين. ويؤكّد هؤلاء القريبون من السلطة أنّ القضية الفلسطينية هي في الأساس وطنية لا دينية، وأما المقدسات الدينية في فلسطين، والتي يجب أن يناضل الفلسطينيون لتحريرها، فهي جزء من الإرث الوطني الفلسطيني، وهي تتحرّر بتحرّر فلسطين، وليس العكس.

 

ولذلك، يقولون إنّ منظمة التحرير الفلسطينية عندما خاضت أشرس مقاومة ضدّ إسرائيل، على مدى عشرات السنين، كانت تستند إلى مرتكزات وطنية، ولم يكن فيها ما يفرّق مقاوماً عن آخر بسبب انتمائه الديني. وأما اليوم، فيمكن القول إنّ إسرائيل ربحت حربها على الفلسطينيين والعرب قبل أن تخوضها، بمجرد انحراف هذه الحرب عن العناوين الوطنية وسقوطها تحت العناوين الدينية. وبدأت تظهر عواقب إغراق العرب والمسلمين في المناخات الدينية السلفية أو ما يسمّى في الغرب «الإرهاب الإسلامي»، من إيران وباكستان وأفغانستان إلى كيانات الهلال الخصيب. وبعد ذلك، بدأت إسرائيل تسدّد الضربات لفرض خياراتها الكبرى، أي إقامة الدولة اليهودية وتوسيعها جغرافياً. وفي البيت الأبيض، الفرصة سانحة على مداها بوجود دونالد ترامب الذي تعهّد لها بالدعم المفتوح. ولذلك، سيكون الاحتلال الإسرائيلي لجنوب سوريا منطلقاً لتحولات كبيرة تشمل الشرق الأوسط كله. ولبنان ليس خارج هذه المعمعة.

theme::common.loader_icon