

يولي «حزب الله» اهتماماً بالغاً بما تبديه واشنطن من إصرار على تكريس «هزيمته» عسكرياً وسياسياً. وفي تقديره أنّ هذا التوجّه الذي كشفت عنه مورغن أورتاغوس بنحو فاضح، لن يقتصر على تركيبة الحكومة وبيانها الوزاري. فالمعارك المندلعة على الحدود السورية هي جزء أساسي من عملية التطويق.
يجدر التفكير عميقاً في ما فعلته إسرائيل ليلة الأحد- الاثنين. ففيما كانت في الجنوب تقوم بتفجير البنى التحتية وتشن الغارات العنيفة على مناطق عدة، أغارت أيضاً على مناطق محاذية للحدود اللبنانية- السورية من الهرمل حتى عكار، وقصفت أهدافاً قيل إن بينها نفقاً عابراً للحدود، قبل أن تتوجّه إلى المزة وكفرسوسة وريف دمشق، حيث استهدفت مواقع أخرى. واللافت أنّ إسرائيل كانت تشنّ هذه الغارات فيما اندلعت على الأرض، في المنطقة إياها، معارك بالأسلحة الثقيلة بين «هيئة تحرير الشام» وعشائر شيعية لبنانية، تشمل نقاط الحدود المتشابكة أو الضائعة، ومناطق أخرى في داخل كل من البلدين.
منذ اليوم الأول للمعارك هناك، حرص «حزب الله» على تأكيد عدم تورطه فيها. وطلبت العشائر من الجيش اللبناني أن يتدخّل لحماية الأهالي. وبالفعل، هو بدأ يردّ على مصادر النار التي تستهدف مواقعه. وكان لافتاً جداً أنّ الجانب السوري، من خلال مدير أمن الحدود في حمص، أعلن ترحيبه بانتشار الجيش في الجانب الآخر من الحدود، حيث كانت تسود حال من الفلتان. وهذه إشارة إلى أنّ هذا النموذج سيعمّ منطقة الحدود كلها مع سوريا، ما يضعها نهائياً تحت سيطرة القوى الشرعية اللبنانية.
في جانب «هيئة تحرير الشام» هناك من يبرّر ما يجري بالقول: «طرأت متغيّرات أمنية وعسكرية وديموغرافية في قرى حدودية سنّية محاذية لأخرى شيعية في مراحل سابقة من الحرب السورية التي كان «الحزب» منخرطاً فيها إلى جانب الأسد. وما يجري اليوم لا يعدو كونه محاولة لإعادة الوضع إلى ما كان عليه. ومن هذه المتغيّرات، كما يتردّد في الجانب السوري، إقامة خطوط تهريب للمخدرات من أمكنة مخصصة لتصنيعها، في اتجاه الأردن والعراق ثم الخليج العربي. وهذا الأمر شكا منه الخليجيون مراراً، وطالبوا الجانبين اللبناني والسوري بمعالجته. وطبعاً، أثيرت مسألة تهريب الممنوعات في خلال زيارة أحمد الشرع للرياض أخيراً.
طبعاً، هناك مشكلة تعانيها الدولة اللبنانية، وتالياً أجهزتها العسكرية والأمنية والإدارية، وهي أنّ الحدود ضائعة في نقاط معيّنة وليست مرسّمة في نقاط أخرى، وأنّ بعض القرى اللبنانية الشيعية تدخل بشكل جيوب حدودية في عمق الخريطة السورية. وقد سمح التداخل أو ضياع الحدود أو عدم ترسيمها بنشوء حال من الفلتان في الاتجاهين. وتضرّر الجانب اللبناني بدخول أعداد لا يمكن حصرها من الأشخاص، نازحين وغير نازحين، وبتهريب السلع على أنواعها والممنوعات، أو بتصنيعها. وفي الخضم، بلغت حركة تنقّل السلاح والمسلحين ذروتها في الاتجاهين. لكن إمساك الجيش بالوضع هناك سيفتح الباب على الأرجح لمفاوضات وتسوية حول الحدود.
منذ أن سقط نظام الأسد، يتردّد في بعض الأوساط السورية كلام مفاده أنّ هناك قنوات تواصل ما زالت قائمة بين «حزب الله» وبعض المجموعات في الداخل السوري. ولم تتأكّد هذه المعلومات من مصادر أخرى، إلّا أنّ «هيئة تحرير الشام» تصرّ على وجود نشاط لـ»الحزب» في المنطقة المحاذية للحدود. وجاءت غارات إسرائيل على أهداف لـ»الحزب» هناك لتدعم الرواية السورية، وبالتزامن مع المعارك الدائرة على الأرض. وتترجم الغارات إصراراً على ضرب مقومات الحزب العسكرية في الجنوب وعلى امتداد الحدود اللبنانية ـ السورية، خلال المهلة المحدّدة لاتفاق وقف النار.
في بيئة «حزب الله» هناك اقتناع بأنّ ما يُراد تنفيذه على الحدود الشرقية والشمالية هو إطباق الحصار عليه تماماً، وقطع الأقنية القليلة المتبقية مع سوريا لتحسين قدراته العسكرية. وكان الأمين العام لـ»الحزب» الشيخ نعيم قاسم قد طمأن إلى أنّ هناك وسائل وطرقاً عدة يمكن أن تسمح ذات يوم بتعويض الخسائر التي أصيب بها «الحزب» في الحرب الأخيرة مع إسرائيل. وبالتأكيد، الحدود مع سوريا هي إحدى هذه الطرق.
ولذلك، هناك من يقرأ المعارك الجارية حالياً في بعض المناطق الحدودية مع سوريا، شرقاً وشمالاً، باعتبارها جزءاً من خطة متكاملة تهدف إلى الإطباق على «حزب الله» وتطويقه ميدانياً، بحيث يقع بين فكَّي كماشة. فإقفال المنافذ مع سوريا يشكّل ضلعاً مقابلاً للعملية التي تنفّذها إسرائيل في الجنوب، والهدف هو قطع أقنية التواصل بينه وبين إيران ودفعه إلى التخلّي عن سلاحه وإنهاء دوره العسكري في لبنان كله، تدريجاً. وبتحقيق هذا الهدف، يتراجع تلقائياً نفوذه في داخل السلطة.
إذاً، هناك خيط يربط الأحداث الجارية حالياً في لبنان، من الجنوب إلى الحدود السورية فالداخل، حيث تبدو الكلمة الفصل للأميركي. وبالتأكيد، كان من مصلحة لبنان إنجاز التسوية من قبل وتجنّب الكوارث التي تعرَّض لها، والحلول الإجبارية التي سيفرضها دونالد ترامب الآتي بعصا غليظة إلى الشرق الأوسط، وموفدته مورغان أورتاغوس المتحيزة لإسرائيل، إلى حدّ أنّها سمحت لنفسها بمرافقة وزير الدفاع إسرائيل يسرائيل كاتس في زيارته التفقدية لأحد المواقع التي يحتلها جيشه في لبنان. وفي المناسبة، في هذا الجو، لا مجال إطلاقاً لخروج هذا الجيش من لبنان بعد أسبوع. والبقية تأتي.








