بعد ثلاثة أسابيع على اللقاء الخماسي الباريسي بدأت مفاعيله وتردداته بالظهور يوماً بعد يوم على الساحتين السياسية والديبلوماسية. وفي الوقت الذي ثبت عقم التسريبات التي أعطت أفضلية لهذا او ذاك من «أسماء العلم» المرشحين لخوض السباق الى قصر بعبدا، ظهر جلياً انّ «المواصفات» التي انتهى إليها اللقاء قد تجاوزت عدداً مما هو مُتداول به من أسماء. وعليه، ما الذي توحي به هذه المعادلة؟
منذ السادس من شباط الماضي، تاريخ انعقاد اللقاء الخماسي الذي جمع المدراء العامين والموظفين الكبار في وزارات خارجية الدول الخمسة: فرنسا، الولايات المتحدة الاميركية، المملكة العربية السعودية، قطر ومصر، تَوالت السيناريوهات التي استعرضَت جوانب عدة من مجريات الاستحقاق الرئاسي بما فيها الحديث عن إقصاء او تقدّم بعض المرشحين على نظرائهم الآخرين. وهو ما أدى الى غزارة في المواقف التي زادت من نسبة الغموض المحيطة بالاستحقاق في انتظار ما يثبت كثيراً مما يرضي رغبات وأمنيات أكثر مما يؤدي الى موعد مقدّر لإتمام الاستحقاق وإنهاء المواجهة المفتوحة على شتى الاحتمالات.
وفي تعليقها على مجموعة السيناريوهات المتناقضة التي يتم تداولها، كشفت مصادر ديبلوماسية على صِلة بما دار في لقاء باريس وما تشهده وما يمكن أن يليها من خطوات عملية، انه لم يكن منطقياً ان يطالب اللبنانيون بـ»بيان ختامي» للأطراف الخمسة الذين التقوا على طاولة «الكي دورسيه»، فالمناقشات الدائرة لم تنته بعد. وانّ «خريطة الطريق» المستدامة المطلوبة ليست وقفاً على اي منهم بمقدار ما هي على عاتق المسؤولين اللبنانيين الذين عليهم القيام بما يثبت قدرتهم على إدارة المرحلة الخطيرة التي تمرّ بها البلاد واستعادة الوضع الطبيعي الذي لن يكتمل بغياب السلطة الإجرائية المتمثّلة بوجود رئيس للجمهورية يقوم بالمهمات المطلوبة منه بالتفاهم والتنسيق مع السلطتين التشريعية والتنفيذية بكل المواصفات الدستورية التي تؤهّلهم لمواجهة المستقبل الغامض وتفكيك العقد المتناسلة على أكثر من مستوى.
وأضافت هذه المصادر، انّ السفراء الخمسة الذين جالوا على المسؤولين اللبنانيين، قاموا بواجباتهم فور عودتهم من باريس بالإبلاغ الى من ألقيت عليهم مسؤولية إخراج البلاد من مسلسل أزماته المتعددة الوجوه أنّ عليهم أن يبادروا الى ما هو مطلوب من خطوات، والتحرر من توجهات وإملاءات خارجية ينتظرها البعض منذ سنوات عدة لتعزيز موقع في مكان ما، أو للاستقواء على شركاء له في البلد بعدما تَبخّر كثير من الرهانات التي بنيت في السنوات الاخيرة على انتصار هذا المحور أو ذاك، وقد ثبت انّ الحرب طويلة وانّ تبادل الانتصارات لم يتحقق سوى في مواجهات محدودة جداً.
وانطلاقاً من هذه المعطيات كشفت المصادر عينها أن الجولات التي قام بها عدد من سفراء مجموعة الخمسة في الأيام القليلة الماضية قد عبّرت بما فيه الكفاية عن عقم الرهانات التي بنيت على معلومات خاطئة وأسقطت أكثر من خيار زائف لا أساس له من الصحة. وإنّ على مَن تَمادى في التفسيرات للقاء باريس أن يتوقف ملياً امام مجموعة «المواصفات» التي التقى أطراف اللقاء، والتي في حال فهمها بكل خلفياتها ومراميها وما دلّت عليه ان يسعى الى مزيد من البحث عَمّن تنطبق عليه هذه المعايير التي تسقط كثيراً من التحالفات القائمة بعد أن تجاوزتها المعطيات التي باتت في حوزة من يقود حملات المرشحين الى اليوم وما عليهم سوى ترجمتها.
وعند هذه المحطة الجديدة التي بلغها الاستحقاق الرئاسي تستطرد المصادر الديبلوماسية لتوحي أن الأيام القليلة المقبلة ستشهد إعادة نظر في إشكال التحالفات التي تؤسّس لمرحلة جديدة لا بد لها من أن تدفع الى إعادة النظر في كثير من المعطيات التي بنيت عليها التحالفات السابقة. فبعض الأسماء المرشحة سقطت وبعضها الآخر على الطريق في انتظار حديث ما لا بد آت.
وإن توسعت عملية البحث عن عناوين المشهد السياسي الجديد المنتظر ولادته، دعت المصادر الى قراءة التحولات الاخيرة التي ترجمتها بعض الخطوات بما حملته من مؤشرات إن دلت على شيء فهي تدل الى بدايات سقوط بعض التحالفات السابقة من جانبي اطراف النزاع. فاعتراف الطرفين المتناحرين باستحالة استمرار المواجهة في شكلها الذي عكسته موازين القوى في الجلسات الانتخابية المتتالية أدى الى الإقرار بصوابية وقف مسلسل الدعوات التي وجّهها رئيس مجلس النواب نبيه بري الى جلسات الانتخاب ولم تعد موضع اهتمام في كثير من المواقف التقليدية منها. ذلك انّ في الافق من ينتظر محطات فاصلة تقود الى اعتماد اسلوب جديد في مقاربة الاستحقاق الرئاسي لم يحن أوانه بعد.
وفي انتظار تلك اللحظة دعت المصادر عينها الى مراقبة المنحى الخطير الذي اتخذته التطورات الاقتصادية والمعيشية بدءاً بارتفاع أسعار صرف العملة الخضراء الى حدود لم يكن يتوقعها سوى قلة من الاختصاصيين في شؤون النقد والمال استناداً الى معرفتهم بعجز اصحاب القرار وفشلهم في مقاربة اي من الملفات الاقتصادية والنقدية كما الادارية والسياسية التي ستقود حتماً الى مزيد من الانهيارات المتوقعة في كثير من القطاعات، في وقت يتنافَس المسؤولون على المضي في إنكار الواقع الخطير الذي بلغته البلاد والسعي الى تعزيز مواقعهم بصلاحيات مؤقتة تزيد من الشرخ القائم بين اللبنانيين.
وإن طلب من اصحاب هذه التوقعات السوداء مزيداً من التوضيحات المؤدية الى ما هو متوقع يردونه الى المشهد النيابي الذي أوقف البحث في اولوية مهماته بانتخاب الرئيس والسعي الى تنظيم مرحلة خلو سدة الرئاسة من شاغلها بدلاً من وضع حد له في اسرع وقت ممكن، والاتجاه الى تشكيل حكومة جديدة بكل مواصفاتها الدستورية لمقاربة ما هو مطلوب من خطوات تُحاكي العلاقات المطلوبة مع المجتمع الدولي، ولا سيما منها المؤسسات المانحة من صندوق النقد الدولي الى البنك الدولي وصولاً الى الدول المانحة التي تستعد للدعم متى أظهَر اللبنانيون قدرتهم على ولوج الطريق المؤدية الى التعافي والانقاذ بدلاً من التوجه إلى ما يعزز سقوط المؤسسات وانهيارها واحدة بعد الاخرى وتعطيل وجوه حياة اللبنانيين.
وبناء على ما تقدم، تختم المصادر الديبلوماسية طروحاتها المتجددة بالتأكيد أن أخطر ما لا تريد الاقتناع بأنه بات امرا واقعا يتجلى بعجز المسؤولين اللبنانيين عن القيام بأولى الخطوات المطلوبة، وذلك على قاعدة تقليدية تقول انهم مهتمون بكل ما هو تافه وآنِي ويتجاهلون ما هو مطلوب، يناقشون في جنس ملائكتهم متجاوزين ما يحتاجه البلد وناسه وكأنهم مستمرون في مواقعهم الى ما لا نهاية في غياب من يضع حداً لهم. فالمواطنون الجائعون نيام ومَن كلفوا إدارة شؤونهم لا ينامون، يخططون لنصب المكائد المتبادلة والأفخاخ في كل الساحات الحكومية والنيابية كما في الرئاسية.