وجهتا نظر برزتا في الأيام الأخيرة حول العلاقة بين «حزب الله» و«التيار الوطني الحر»، الأولى تقول بأنّ لا تبدّل في تموضع الحزب السياسي وتحالفاته وتقاطعاته، والثانية ترى بأنّ الطلاق بين الأول والثاني أصبح حتمياً.
تراوحت المواقف السياسية لبعض القيادات العونية في الأيام الأخيرة بين مهاجمة «حزب الله» بالحدّ الأقصى، وبين معاتبته ولومه بالحدّ الأدنى، ويمكن إدراج هذه المواقف ضمن حدّين: حدّ ابتزازي بسبب وقوفه على الحياد، وفي المنطقة الوسطى بين الرئاسة الأولى من جهة، والرئاستين الثانية والثالثة من جهة أخرى، وهذا الابتزاز ليس الأول من نوعه ولن يكون الأخير، ويرمي إلى توجيه رسائل للحزب مفادها انّ عليه ان يحسم تموضعه على قاعدة: إما معنا وإما ضدّنا.
والحدّ الآخر ينمّ عن تعبير عفوي أو بالأحرى، التعبير في العلن عمّا يُحكى في السرّ والغرف المقفلة، من استياء عارم بسبب عدم تدخُّل «حزب الله» لمصلحة حليفه العهد، الذي دفع الغالي والنفيس ثمناً لهذا التحالف، وفي ظل عدم تدخُّل القيادة العونية للحؤول دون إطلاق هذه المواقف، بغية إفهام الحزب انّ الأمور ليست على ما يرام.
ومع اندلاع الأزمة الصامتة بجزء منها والمعلنة بالجزء الآخر بين «حزب الله» و«التيار الوطني الحر»، بسبب تموضع الحزب الحيادي، في مرحلة يعتبرها التيار مصيرية بالنسبة إليه في الربع الأخير من ولاية رئيس الجمهورية، برزت تفسيرات عدة لهذا التموضع، والتي يمكن وضعها في وجهتي نظر أساسيتين:
الوجهة الأولى، تعتبر انّ «حزب الله» قرّر التخلّي عن تحالفه مع «التيار الوطني الحر» للأسباب الآتية:
السبب الأول، مردّه إلى أولوية التبريد مع الحالة السنّية في هذه المرحلة لا المسيحية. وانّ التحالف مع الحالة العونية بدأ وتطوّر في عز الاشتباك مع الحالة الحريرية واستطراداً السنّية، وانّه في ظل التقاطع الحاصل، بدءًا من ترتيب الساحة الداخلية والحكومية تحديداً مع الحريري، وصولاً إلى بداية التفاوض السعودي-الإيراني على مستوى المنطقة، تتحوّل الأولوية إلى العلاقة السنّية-الشيعية على حساب العلاقة المسيحية-الشيعية.
السبب الثاني، لأنّ الحزب سدّد دينه للحالة العونية، ليس فقط بإيصال العماد عون إلى رئاسة الجمهورية، إنما بالوقوف إلى جانبه في كل المحطات والمفاصل. ولكن الاستمرار في دعمه أصبح مكلفاً على الحزب، بفعل سياسة العهد المتطلبة، والتي دخلت في مواجهات مع كل القوى السياسية من دون استثناء ومن دون تنسيق مع الحزب، فيما كل تركيز الأخير يتمحور على المرحلة التي ستلي العهد العوني، والتي يرى بأنّ ترتيبها يتطلّب التفاهم مع الحريري لا مع عون، واستطراداً باسيل، لأنّ الأزمات المالية والشعبية والمعيشية والمعطوفة على العقوبات، وضعت الحالة العونية في وضع صعب للغاية ومعطّل، فضلاً عن تشكيلها حال عدوى سلبية لكل من يقترب منها.
السبب الثالث، لأنّ العهد «متعب»، ويعتبر انّ تغطيته لسلاح «حزب الله» ودوره، يجيز له قطف كل المكاسب السلطوية من دون الأخذ في الاعتبار مصالح الحزب وأولوياته وتحالفاته وتقاطعاته، فضلاً عن انّ الأخير ليس في وارد الالتزام بأي عهد او وعد بمن يخلف الرئيس عون، ولا ان يكشف خطواته للمرحلة المقبلة. ومن الثابت، ان لا أولوية للعهد سوى ضمان دوره بعد انتهاء ولايته من جهة، وضمان استمراريته في القصر الجمهوري مع باسيل من جهة أخرى. والخلاف على هذا المستوى ليس تفصيلاً، وكل النقاش الشكلي في تعديل وثيقة التفاهم يتمحور حول هذا العنوان، من زاوية انّ تفاهم «مار مخايل» أوصل عون إلى الرئاسة الأولى، فيما المطلوب اليوم تجديد التفاهم من أجل إيصال باسيل إلى هذا الموقع.
فما بين الأولوية السنّية على المسيحية داخلياً، وعلى مستوى المنطقة، وانتفاء الحاجة الموضوعية للتحالف مع الحالة العونية، وما بين أداء العهد السيئ والمتطلِّب وتهديده لتحالفات الحزب وعلاقاته وتقاطعاته، وما بين رفضه الالتزام بأي وعد رئاسي، فإنّ العلاقة بين الطرفين، وفق وجهة النظر الأولى، تتجّه إلى الانفصال والطلاق.
وأما وجهة النظر الأخرى، فتعتبر انّ «حزب الله» لا يملك ترف التخلّي عن الحالة العونية التي تشكّل حليفاً استراتيجياً له، وانّ كل ما يحصل اليوم لا يعدو كونه تمايزاً او خلافاً تحت سقف تفاهمهما الاستراتيجي. كما انّ الحالة العونية نفسها لا تملك ترف الانفصال عن الحزب، في الوقت الذي تفتقد فيه ليس فقط إلى اي حليف داخلي، إنما إلى اي صديق داخلي وخارجي، وتبدُّل موقفها من الحزب لن يمنحها صك براءة وفتحاً للعلاقات، كونها مجربِّة ولم تراجع خياراتها إلاّ بعد ان تخلّى عنها الحزب، وبعد ان أوصلت البلد بممارستها إلى ما وصل إليه.
فحاجة العهد إلى الحزب توازي حاجة الأخير إليه. وإذا كان الحزب لا يستطيع ان يتعهّد اليوم للعهد «بوعد صادق رئاسي»، إلّا انّه سيتعامل معه بالحدّ الأدنى كمعبر للرئاسة الأولى، وسيحرص على عدم انتخاب رئيس يستفز العهد، فيما الأخير لا يستطيع ان يضمن شيئاً من دون الحزب، وكما لا يملك الحزب ترف الانفصال عن التيار، فإنّ الأخير لا يملك الترف نفسه.
ويُدرك «حزب الله» بأنّه نجح مع «التيار الوطني الحر» بالانتقال من ممارسة حق الفيتو الشيعي، إلى الاستحواذ على الأقلية الوزارية والنيابية في المرحلة الأولى، ومن ثم على الأكثرية الوزارية والنيابية، وهو يحرص على الحفاظ على هذا المكسب تجنباً للانكفاء واستخدام الفيتو الشيعي. وعلى رغم التراجع في الشعبية العونية، إلّا انّ هذه الحالة تبقى الأقوى مسيحياً ضمن صفوف 8 آذار، والأوثق على المدى البعيد، لأنّ ارتياح الحزب للحالة الحريرية يمكن ان يتبدّل في لحظة اشتباك سعودي - إيراني، او في اللحظة التي يستعيد فيها حاضنته الخليجية، وبالتالي التقاطع مع الحريري هو تكتي الطابع، فيما التحالف مع الحالة العونية هو استراتيجي الطابع.
ومشكلة «حزب الله» مع الحالة العونية، انّها لا تتفهّم ضروراته الاستراتيجية على مستويين: المستوى الأولى يتعلّق بداخل الطائفة الشيعية لناحية العلاقة مع الرئيس نبيه بري، والتي تشكّل خطاً أحمر، باعتبار انّ قوته متأتية من وحدة الموقف والصف الشيعي، وانّ شقّ هذا الصف يؤدي إلى إضعاف دوره وتأثيره وإدخاله في متاهة إلهاء داخلية، وهذا ما يدعو التيار إلى تفهمّه. ويراهن الحزب على قدرته في تجاوز الإشكال المستجد بين الطرفين، كما نجح سابقاً في تجاوزه على إثر كلام باسيل العالي السقف عن بري.
المستوى الثاني يرتبط برئاسة الحريري للحكومة، منطلقاً من تجربة الحكومة المستقيلة التي لم تتمكّن من فرملة الانهيار. وهو يقول لعون بأنّه قبل بدياب على مضض نزولاً عند رغبته، وانّه بعد فشل هذه المحاولة، على العهد ان يراجع تجربته لا ان يتمسّك بها، خصوصاً انّ أولويته الحفاظ على الستاتيكو الحالي الذي يمنحه القدرة على مواصلة الإمساك بمفاصل الدولة، فيما انهيار هذه الدولة يفقده أوراق قوته ويدفعه إلى الانكفاء إلى داخل المربّع الشيعي ويفتح باب الضغوط عليه من أكثر من جانب، في مرحلة دقيقة وحساسة، تشهد مفاوضات سيتقرّر بموجبها مصير المنطقة، وبالتالي جلّ ما يريده شراء الوقت الإيجابي الذي لا يتحقق سوى عن طريق الحريري الذي يحظى بدعم بيئته وبعض العواصم الخارجية.
وفي خلاصة وجهة النظر الثانية، انّ طبيعة المرحلة تفرض على «حزب الله» ان يقف على مسافة واحدة من عون وبري والحريري، وحياده لا يعني تخلّيه عن عون، إنما ضرورات المرحلة وموجباتها تفرض عليه هذا التموضع الذي يجعله في حالة شلل وفاقداً للموقف والقرار، فيما عون يريد من الحزب ان يحدّد موقفه على طريقة «يا أبيض يا أسود»، بينما المرحلة الحالية تفرض تعدّد الألوان، وضمانة عون يأخذها من الحزب، إنما عليه التعاون وتفهُّم دقة المرحلة ومتطلباتها والتعامل بليونة مع الأوضاع والمرحلة.
وفي الختام، لا مراجعة للخيارات ولا التحالفات ولا التموضعات بين «حزب الله» و«التيار الوطني الحر»، وكل ما يحصل لا يتجاوز التمايز ضمن التحالف، وسيتعامل الحزب مع هذا التمايز على طريقة سحابة صيف عابرة، ولكن هذا لا ينفي انّ العهد في أزمة كبرى، كون ولايته شارفت على نهايتها، على وقع أزمة مالية وتراجع شعبي وخصومات داخلية وعقوبات خارجية، وهو في حالة ضياع، لعجزه ليس فقط عن التهيئة لخروج آمن سياسياً، إنما لضمان دوره في المرحلة المقبلة.