الصراع المحتدم بين رئيس الجمهورية العماد ميشال عون ومعه فريقه السياسي ورأس حربته رئيس «التيار الوطني الحر» النائب جبران باسيل، وبين الرئيس المكلّف سعد الحريري وفريقه السياسي، الذي يتمّ شهره الثامن بعد اسبوع، حوّل تأليف الحكومة إلى لعبة تسجيل نقاط لا رابح فيها، استُنفدت فيها كل محاولات الإحراج للإخراج، وأوصل الطرفين الى أفق مسدود، ووصل معهما لبنان الى مفترق مصيري. واللبنانيون منهكون بين قهر وجوع وطوابير ذلّ اصعب عليهم من ويلات الحرب الاهلية. وهو وضع بات يتطلّب لحظة مسؤولية، فعلى ما سيقرّره عون والحريري، في موازاة هذه الصورة السوداء، يُرسم طريق البلد، إما في اتجاه الانفراج، وهو مطلب صادر من وجع الناس، وأما في اتجاه الانفجار والفوضى والشر المستطير.
الإيجابيات ممكنة.. ولكن!
الاسبوع الجاري يفترض ان يتحدّد خلاله الاتجاه الذي سيسلكه البلد، وكل شيء معلّق على حركة الاتصالات للتقريب بين المتصارعين. الرهان على ايجابيات ممكن، على ما يؤكّد لـ»الجمهورية» عاملون على خط فكفكة العِقد، ولكنّ الشرط الأساس لربح هذا الرهان هو تغليب ذهنية التسهيل والتشكيل على ذهنية التعطيل، وتوفّر نيات صادقة لدى طاقم التأليف، تتولّد عنها مقاربات موضوعيّة وعقلانيّة وواقعيّة، تُبنى عليها أسس البناء الحكومي. وكل ذلك لا يبدو متوفراً حتى الآن، وتبعاً لذلك، فإنّ السلبيات هي الاكثر قرباً الى الواقع، حتى يثبت العكس.
الّا انّ الاتصالات، على ما تكشف المصادر، ما زالت مفرملة حتى الآن، منذ الاجتماع الأخير بين المعاون السياسي لرئيس مجلس النواب النائب علي حسن خليل والمعاون السياسي للامين العام لـ»حزب الله» الحاج حسن خليل ورئيس وحدة الارتباط والتنسيق في الحزب وفيق صفا مع النائب باسيل. وانطلاقها من جديد، مرتبط بما سُمّيت «إجابات» وعد باسيل بتقديمها حول ما يتعلق بالعِقد المانعة لتأليف الحكومة، وهذه الاجابات لم تصل بعد، وقد لا تصل ربطاً بالتطورات التي تسارعت في الايام القليلة الماضية، بدءًا بالاشتباك المتجدّد بين «التيار الوطني الحر» وحركة «امل» على جبهة البطاقة التمويلية، واجتماع المجلس الاسلامي الشرعي الاعلى، وموقفه الحاضن للحريري، والرافض المسّ بصلاحيات رئيس الحكومة، وصولاً الى الموقف الاخير الصادر عن الرئيس بري، والذي يتناغم فيه مع الرئيس المكلّف وموقف المجلس الاسلامي الشرعي الاعلى.
محوران
لا توحي هذه التطورات بأنّ مسار التاليف سالك وآمن، فالمشهد الحكومي، او بالاحرى المشهد السياسي العام، صار مفروزاً بين محورين:
الأول، محور رئيس الجمهورية ومعه فريقه وباسيل، يربط تأليف الحكومة بعنوان حماية حقوق المسيحيين، يسعى من خلاله الى الزام الرئيس المكلّف بما يسمّيها أصولاً ومعايير تفرض على الرئيس المكلّف قواعد جديدة في التأليف، وتنتزع منه حق تسمية وزراء مسيحيين في الحكومة الجديدة. ولا يبدو انّ عون ومعه جبران باسيل، سيقبل بإعطاء الحريري هذا الحق، ولا تراجع عن منع الحريري تسمية اي من الوزراء المسيحيين، حتى ولو ادّى ذلك الى تطيير الرئيس المكلّف، وبقي التأليف معلقاً ومعطلاً حتى نهاية ولاية رئيس الجمهورية.
الثاني، محور «تحصين التكليف»، الذي شكّل غطاء واسعاً للحريري امام محاولة سحب ورقة التكليف من يده ودفعه الى الإعتذار. ويمتدّ هذا المحور من المرجعية السنّية الدينية والسياسية، الى مرجعيات وقوى سياسية اخرى تقدّمها الرئيس بري، برسالة مباشرة الى فريق رئيس الجمهورية من دون أن يسمّيه، تؤكّد على تسهيل تشكيل الحكومة وضرورة رفع العوائق المفتعلة من طريقها، وان لا بديل للرئيس الحريري على رأس هذه الحكومة.
وعلى ما بات مؤكّداً في رأي مصادر سياسية، فإنّ رئيس الجمهورية - ومعه فريقه السياسي - بات في مواجهة جبهة سياسيّة عريضة تغطي الحريري وتستعجل التأليف وفق الاصول الدستورية، ألمح اليها الرئيس بري في السّاعات الأخيرة، وتشمل إلى جانب المرجعيّة السنيّة الدينيّة والسياسيّة وايضاً الى جانب مرجعيات مسيحية اخرى دينية وسياسية، حركة «أمل»، «حزب الله»، تيّار «المردة»، «الحزب التقدّمي الاشتراكي» وشخصيات سياسية أخرى.
خطوة تصعيدية
واذا كان قصد فريق «تحصين التكليف» هو الحثّ على تفاهم الرئيسين عون والحريري على تشكيل حكومة وفق مبادرة الرئيس بري، وبمعايير تقدّم مصلحة لبنان على المصالح الشخصيّة والحزبيّة، إلّا أنّ الصورة في المقلب العوني تعكس شعوراً بالإستفزاز من بروز هذا المحور، والذي اعتبره «خطوة تصعيدية ومحاولة لحشر رئيس الجمهورية وتحميله مسؤولية تعطيل الحكومة، فيما التعطيل يتحمّل مسؤوليته الرئيس المكلّف».
يؤشر ذلك، وعلى ما تؤكّد مصادر سياسية لـ»الجمهورية»، الى انّ المشهد الداخلي بين هذين المحورين المتناقضين، أو بالأحرى الإصطفافين اللذين يتبدّى فيهما البعد الطائفي والسياسي، على عتبة صفحة جديدة من التوتّر السياسي، وخصوصاً انّ عقلية الاشتباك والتوتير في كل الاتجاهات، هي التي تحكم مسار تأليف الحكومة منذ تكليف الحريري في تشرين الاول من العام الماضي. وبالتالي مع صراع هذين المحورين تتضاءل إمكانية تشكيل حكومة، وتصبح كل الاحتمالات السلبية واردة.
عون والتيار
الرئيس عون، وكما يقول مطلعون على أجواء القصر الجمهوري، لن يخضع لما يسمّيها هؤلاء «أي محاولة ابتزاز»، ولن يتراجع عن المسلمات والثوابت التي حدّدها حيال تشكيل حكومة وفق معايير محدّدة تحترم أسس التوازن. ويعتبر انّ الكرة في ملعب الرئيس المكلّف الذي لم يثبت حتى الآن أنّه قادر على تشكيل حكومة.
وبحسب هؤلاء المطلعين على اجواء القصر الجمهوري، فإنّ الرئيس عون يرى انّ ثمة مماطلة متعمّدة من قِبل الرئيس المكلّف حيال تأليف الحكومة، ورئيس الجمهورية لن يكون في مقدوره ان يصبر عليها، وباب الخيارات مفتوح.
وفي السياق ذاته، رفضت مصادر «التيار الوطني الحر» اتهام التيار بتعطيل تأليف الحكومة، وقالت لـ»الجمهورية»: «كنا وما زلنا نريد حكومة برئاسة الحريري، لكنه يهرب من التأليف، ويغطي هروبه بالإصرار على فرض معايير تتجاوز موقع وصلاحيات رئيس الجمهورية».
واعتبرت المصادر، انّ «محاولة حشر رئيس الجمهورية لحمله على التنازل عن ثوابته، مصيرها الفشل الحتمي. فمن يسعى الى ذلك يبدو انّهم لا يعرفون رئيس الجمهورية».
الحريري
الرئيس المكلف، وعلى ما تؤكد اوساط قريبة منه، ما زال يعطي فرصة للاتصالات ولمبادرة الرئيس نبيه بري، لعلّها تتمكن من تحقيق الخرق المطلوب، الذي يوصل الى حكومة بات تأخيرها يكلّف لبنان واللبنانيين أكلافاً باهظة.
ولفتت المصادر الى انّ تعطيل تاليف الحكومة مصدره وحيد ومعروف للجميع هو رئيس الجمهورية وجبران باسيل. فالرئيس المكلف قدّم أقصى ما لديه من تسهيلات للتعجيل في تأليف الحكومة وكان وما زال متجاوباً الى اقصى الحدود مع مبادرة الرئيس بري، فيما فريق رئيس الجمهورية يختلق العقدة تلو الأخرى ضمن المنحى الذي يتّبعه عبر محاولة فرض أعراف وآلية جديدة لتأليف الحكومات خلافاً للدستور وقفزاً فوق موقع رئيس الحكومة وصلاحياته.
واكدت الأوساط ان الرئيس الحريري لا يمكن ان يقبل بهذا التجاوز للدستور، ولا بالمس بصلاحيات الرئاسة الثالثة، ولا بالتعاطي مع رئيس الحكومة كحرفٍ ناقص وكابن جيران لا علاقة له بتأليف الحكومة، ومحاولة تقييده بشروط تمنع عليه حق ان يختار من يشاء من الوزراء سواء أكانوا مسلمين او مسيحيين، هذا امر لا يمكن القبول بترسيخه في اي حال من الاحوال.
ورداً على سؤال عما اذا كان الرئيس المكلف بصدد تقديم تشكيلة حكومية جديدة لرئيس الجمهورية، قالت الأوساط: الرئيس الحريري سبق ان أعدّ تشكيلة لحكومة كفاءات وخبرات وعَطّلها عون وباسيل، واذا كان هناك تشكيلة جديدة فلن تكون مختلفة عنها.
ولفتت الاوساط الى أنّ الحريري لن ينتظر طويلاً ولم يسلّم لهذا التعطيل المتمادي، وهو حتى الآن ينتظر ما ستؤول اليه مبادرة الرئيس بري ان كانت ستفتح نافذة حل، او ستصطدم كما هي الآن بتعطيل من قبل عون وباسيل، فليتحمل المصرّ على التعطيل المسؤولية، علماً انّ خيار الرئيس المكلف بات محسوماً، فهو لا يريد ان يكون شريكاً في التعطيل، ولا شريكاً في تكريس الفراغ، وباتالي هو أصبح اقرب الى الإعتذار، لكن هذا لا يعني انّ هذا الخيار آنِي، بل هو رهن بما قد يستجد في الايام القليلة المقبلة».
واكدت الاوساط انها غير متفائلة في إمكان بلوغ تفاهم بين الحريري وعون على تشكيل حكومة. فالسبب واضح، وسبق أن اشار إليه الرئيس المكلف في ردّه على رسالة عون الى مجلس النواب، وهو أنّ رئيس الجمهورية لا يريد الرئيس الحريري في رئاسة الحكومة.
بري: لا تتجاوزوا الدستور
الى ذلك، أعرب الرئيس بري عن انزعاجه الشديد من الاوضاع الراهنة، معتبراً انّ استمرار حال التردي سيؤدي الى خراب كبير لا تحمد عقباه.
ولفت الى انّ مبادرته في نسختها الثالثة للحل والخروج من المأزق السياسي والحكومي الحالي، تحظى بموافقة عربية واقليمية ودولية وغربية، بما فيها فرنسا، لكنه أعرب عن قلقه البالغ من أن تَمسّك البعض بشروط تعجيزية سيزيد في تعقيد الامور وليس انفراجها، مؤكداً أنه من موقعه كرئيس لمجلس النواب، حريص جداً على احترام الدستور وتطبيقه ولن يسمح باستهدافه او تجاوزه او خَرقه تحت أي مسميات».
وضمن هذا السياق، اكدت حركة «أمل» انّ «البعض ما يزال البعض يُمعن في ضرب القواعد الدستورية بمحاولة خلق أعرافٍ جديدة تمسّ أسس التوازنات الوطنية والمرتكزات التي أرساها اتفاق الطائف، وتضع البلد في مواجهة مخاطر جمّة».
وحذّرت الحركة، في بيان لمكتبها السياسي أمس، من «الاستمرار في سياسة تجاهل صرخات الناس وآلامهم، وإضاعة الوقت والفرص والسعي إلى محاولة تكريس توازن الفراغ وتعميم الشلل». كما حذّرت من النتائج الكارثية لتعطيل (مبادرة لبنان) التي بناها الرئيس بري على ركائز المبادرة الفرنسية لتكون بوابة حكومة إصلاح تنقذ البلد وتضعه على سكة الخروج من أزماته.
«حزب الله»
وفي موقف لافت للانتباه، اعتبر رئيس المجلس التنفيذي في «حزب الله» السيد هاشم صفي الدين أنّ المعضلة الاساسية في لبنان هي في ثقافة سياسية تستسيغ النفاق والتلطّي خلف المصالح السياسية والمذهبية من أجل تحقيق مآرب شخصية».
وقال صفي الدين في احتفال في بلدة اللويزة: «المشكلة ليست في النقاط التي يقال هي محل خلاف، المشكلة اننا نواجه بعض السياسيين الذين يريدون ان يتوصلوا الى تحقيق مآرب شخصية عادية لهم لم يتمكنوا من تحقيقها في الايام الطبيعية ويتوسّلون عذاب الناس وألمهم من اجل تحقيق هذه المصالح، وهذا بعض الحقيقة».
واشار الى اننا «حينما نتحدث عن المبادرات، وتحديداً المبادرة التي يصرّ عليها الرئيس بري و»حزب الله» ومعهما كل الحريصين على إخراج البلد من مأزقه، البعض يدفع باتجاه التيئيس ونحن ندفع باتجاه الأمل، فهناك خطابان في لبنان».
وقال: «البعض ربما لا يدرك انّ رهاناته التي يعتمدها، ولو على حساب الناس ووجعهم، ستغرقه وتغرق البلد». اضاف: «مخطئ اذا كان البعض يظنّ انّ تمسّكنا الدائم بالمبادرات يعطيهم مزيداً ومتسعاً من الوقت، فهم مشتبهون».
وخلص الى القول: «السياسة يجب ان تكون في خدمة مصالح المواطنين وليس العكس. والمناورات السياسية تنتهي عند الصالح العام والمصالح الكبرى. وبالتالي، فإنّ التلاعب بالمناورات السياسية والشروط والشروط المضادة من هنا او هناك، هو تلاعب بكرامة اللبنانيين والمصالح الوطنية».
الترسيم
من جهة ثانية، كان لافتاً أمس التحريك المفاجىء لملف ترسيم الحدود البحرية بين لبنان واسرائيل، عبر زيارة غير متوقعة للوسيط الاميركي لعملية التفاوض غير المباشر في شأن الترسيم السفير جون دوروشيه الى بيروت أمس، حيث التقى رئيس الجمهورية.
وبحسب المعلومات الرسمية فإنّ عون أبلغ الوسيط الاميركي رغبة لبنان في استمرار المفاوضات غير المباشرة في الناقورة بوساطة أميركية واستضافة دولية، وذلك بهدف الوصول الى تفاهم حول ترسيم الحدود البحرية، على نحوٍ يحفظ حقوق الأطراف المعنيين بالاستناد الى القوانين الدولية. وطلب الرئيس عون من الوسيط الأميركي ان يمارس دوره للدفع نحو مفاوضات عادلة ونزيهة، ومن دون شروط مسبقة لأنّ ذلك يضمن قيام مفاوضات حقيقية مستندة الى الحق الذي يسعى لبنان الى استرجاعه.
وأعرب الرئيس عون عن امله في ان تلقى المساعي التي سوف يبذلها السفير دوروشيه مع المسؤولين الاسرائيليين نتائج إيجابية، آخذين في الاعتبار وجود حكومة جديدة في إسرائيل الامر الذي يتطلب ربما جهداً إضافياً لعدم حصول المزيد من التأخير في المفاوضات التي لا يمكن لإسرائيل ان تفرض وجهة نظر أحادية على مسارها. وشدد على انفتاح لبنان على الأفكار المطروحة ضمن إطار السيادة اللبنانية الكاملة براً وبحراً، لافتاً الى انّ لدى لبنان خيارات عدة في حال عدم تجاوب الإسرائيليين مع الجهود المبذولة لتحريك المفاوضات.
يُشار الى انّ تحريك ملف الترسيم يأتي بالتوازي مع مطالبات لسياسيين وديبلوماسيين في واشنطن للادارة الاميركية لممارسة ضغوط من اجل استئناف ترسيم الحدود بين لبنان واسرائيل، الذي فوّتَ حتى الآن إمكانات مالية هائلة للبلدين، خصوصاً على لبنان الذي يمكن ان يدرّ عليه هذا الأمر عائدات مالية كبيرة في فترة ليست بعيدة، تساعده على التصدي لأزمته الراهنة.