

في بحر شرق المتوسط، حيث تتلاطم أمواج الأحلام بالدماء المسالة على البر، تتراقص أحلام الشعوب على حواف أفقٍ مسدود، تتناثر كالشظايا من قلب انفجارات لا تتوقف.
أحلامٌ ورواياتٌ تتناثر عن ثرواتٍ ضخمة من النفط والغاز تُقدَّر بـ 120 تريليون متر مكعّب من الغاز و1,7 مليار برميل من النفط، والتي تشير الدراسات إلى أنها تكمن في حوضٍ واحد، يمتد من شواطئ شبه جزيرة سيناء غربا، مروراً بشواطئ فلسطين المحتلة ولبنان وسوريا وقبرص، وصولاً إلى تركيا. وقد قيل أنّ هذه الثروة قادرة على تغيير مصير شعوب هذه الأرض.
غير أنّ غاز شرق المتوسط، لم يَعُد اليوم مجرّد ثروة طبيعية، بل بات مرآة تعكس عمق الجروح التي تعيشها شعوب منطقتنا. فبينما يُراهن العالم على ثروات البحر لإطفاء لهيب الحروب المستعرّة على الأرض، تبقى شعوب هذه المنطقة، كالعصافير المحاصرة في قفص من نار، تتنفّس الوعود، ولكن من دون أن تلمس الواقع. الغاز، الذي كان يُفترض أن يكون بلسماً لجروحهم، أصبح سيفاً مسلّطاً على رقابهم، وتاجراً بمستقبلهم في لعبة دولية لا تتوقف.
ففي غزة، حيث الأرض تُختنق تحت وطأة الحصار والدمار، كانت أحلام الغاز ترفرف على شواطئها المقابلة لحقل «غزة مارين»، إلّا أنّ الحُلم قُتل بعذر الإرهاب ليبقى هذا المورد الثمين مُحتجزاً في أعماق البحر. أمّا في لبنان، حيث الأرض تستباح يومياً بلا نهاية، وينهار الإقتصاد في قلب الأمل المفقود، يبقى الغاز اللبناني محاصراً بين الأطماع الإقليمية والدولية، وسبي القرار السياسي الداخلي إلى المجهول. وفي سوريا، حيث باتت الأرض محروقة والخراب في كل زاوية، تظل أحلام الغاز السوري تتناثر بين أيدي القوى الكبرى التي تتحكم بمصير هذا البلد الذي أنهكته الحروب والمآسي.
لا شك أنّ ما يحدث في منطقة الشرق الأوسط يتجاوز بكثير تلك الصورة التي تُروَّج لها القوى الكبرى على أنّها نزاعات إرهابية. فالحقيقة أعمق وأشد تعقيداً، إذ أنّ الحروب المستعرة في هذه الأرض الممزقة تتشابك بنحو محيّر مع أطماع خفية في ثروات لا تُعدّ ولا تُحصى، مدفونة في البحر الأبيض المتوسط.
الغاز والنفط، اللذان كانا يُفترض أن يكونا مخرجاً للخلاص وأداة لبناء مستقبلٍ أفضل، تحوّلا بذوراً للنزاع لا تنضج إلّا في أتون الحروب. فوَراء هذا النزاع الدموي الذي يترنّح بين شواطئ المنطقة، هناك قوى جيوسياسية تتلاعب بمصير هذه الثروات. والغاز في البحر الأبيض المتوسط ليس مجرّد نزاع إقليمي؛ إنّه نزاع متعدّد الأبعاد يشمل القوى الكبرى التي تتنافس على الهيمنة والنفوذ، فيُستخدم الغاز كأداة جيوسياسية لتحريك التوازنات الدولية.
ويؤكّد المحلّل الجيوسياسي جيرونسكي، إنّ منطقة البحر الأبيض المتوسط وخصوصاً تلك التي تقع قبالة سواحل لبنان وفلسطين المحتلة وسوريا ستظل نقطة توتر رئيسية بسبب النزاع على احتياطيات الغاز والنفط، وقد أصاب في قرائته قبل وفاته عام 2022، حين أشار إلى أنّ المنطقة مقبلة على نقطة فارقة حيث ستتصاعد التوترات بين إسرائيل، لبنان، تركيا، وسوريا، على خلفية التنقيب عن الغاز في البحر الأبيض المتوسط.
وفي سياق متصل، فقد حذّر عدد من التقارير التي تعنى بالدراسات الشرق الأوسطية عام 2023 من «أنّ النزاع حول الغاز في لبنان وفلسطين المحتلة قد يؤدّي إلى تحوّله معركة شاملة. فالغاز في البحر اللبناني والفلسطيني المحتل أصبح معركة كبيرة، حيث تتلاقى أطماع إسرائيل مع التوترات اللبنانية والفلسطينية، ليصبح هذا المورد ساحة جديدة للإقتتال».
فإذا كان الغاز قد أصبح حجر الزاوية في حسابات جيوسياسية كبيرة، فما هو مستقبل شعوب هذه المنطقة التي تعيش تحت وطأة الحروب والإبادة؟ وهل سيظل هذا المورد محاصراً في الأعماق، تتنازع حوله القوى الكبرى من دون أن يصل إلى أيدي من يُفترض أن يستفيدوا منه؟ من المؤكّد أنّ شعوب المنطقة ستظل محاصرة في هذا النزاع ما لم تُتخذ خطوات عملية لتحرير إرادتها من الإرتكان للخارج والعمل على جعل هذه الثروات في خدمة التنمية المستدامة لشعبها. لكنّ غياب الاستقرار السياسي والأمني والاقتصادي في هذه الدول وخصوصاً في فلسطين المحتلة ولبنان وسوريا يجعل من هذه الثروات مجرّد وسيلة لتأجيج مزيد من الحروب لمصلحة القوى الكبرى التي تُعيد رسم خريطة المنطقة وفق مصالحها.
للأسف، فإنّ النفط و الغاز، الذي كان يمكن أن يكون رمزاً للخلاص والتنمية لشعوب منطقتنا، صار مجرّد أداة لتصفية الحسابات الجيوسياسية. وبات البحر مرآة مشوّهة تعكس وجوه كل من القوى الكبرى التي ترفع شعار القانون والحقوق ثم تنهبها، والشعوب المستكينة المأخوذة بصدمة الدمار والويلات.
في الحقيقة، ما تحتاجه منطقتنا ليس مَن يُنقّب في أعماق البحر عن النفط والغاز، بل مَن يُنقّب في أعماق الضمير عن العدالة المفقودة وسط ركام السياسة وأطماع القوى الكبرى. فالثروات وحدها لا تُطعِم جائعاً، ولا تبني وطناً، إن لم تُقَد بإرادة الشعوب الحقيقية ورغبتها في التغيير. فما تفتقر إليه شعوبنا هي الكرامة، الحرية، والإرادة الحرّة التي سُحقت تحت وطأة الصمت المتواطئ.
وإن كان التاريخ لا يُخلّد إلّا أولئك الذين اجتازوا امتحان الإنسانية، وسقطوا تحت أنقاض الحروب. غير أنّ دمعة واحدة على خدّ أمٍ ثكلى، كانت تحلم بأن يُضيء الغاز بيتها، فإذا به يُضيء قبر ابنها، تحمل من الألم ما قد يشعل شرارة التغيير وأملاً في أن يأتي يوماً تكتب فيه شعوبنا مستقبلها لا بمداد النفط والغاز، بل بإرادة الحياة.








