

أدت زيارة مورغان أورتاغوس الأخيرة لبيروت إلى إطلاق مسار لحل عقدة السلاح. ولعلّ المغزى الأهم في هذه المسألة هو أنّ إدارة دونالد ترامب ضمّت أورتاغوس إلى الفريق الأميركي المفاوض للإيرانيِّين في مسقط، وهذه إشارة قوية جداً إلى ارتباط الملف اللبناني، ولا سيما منه الشق المتعلق بالسلاح، بالتسوية المنتظرة للملف الإيراني.
لن يتخذ «حزب الله» أي قرار حاسم يتعلق بسلاحه قبل أن تتبلوَر تماماً نتائج محادثات عُمان. وأركان الدولة والإيرانيّون والأميركيّون، وحتى الإسرائيليّون، يُدركون ذلك. ولهذا السبب، لجأت الدولة إلى الآلية المسماة «حواراً» مع «الحزب»، برعاية رئيس الجمهورية. وفي الواقع، ستُطوَّر هذه الآلية بالتوازي مع تطور آلية المفاوضات الجارية في عُمان، وبالسرعة إيّاها.
لقد أعلن الرئيس جوزاف عون عن هذه الآلية لطمأنة واشنطن إلى جدية العمل في هذا الاتجاه، وفاءً لالتزامها احترام القرارات الدولية واتفاق وقف النار. ولذلك، أعلن الرئيس عن الحوار ثم انصرف بهدوء إلى الورشات الأخرى المفتوحة، في مجالات الاقتصاد والمال والإدارة وتطبيع علاقات لبنان بالعرب والعالم.
وفي تقدير أركان الحكم، أنّ «الحوار» حول السلاح سيحقق النتائج المرجوّة شيئاً فشيئاً، لأنّ الجميع مضطرّون للرضوخ تلقائياً إلى الحل. ويبني أركان الحكم تفاؤلهم على اقتناعهم بأنّ النزاع بين إيران والغرب بات على وشك الانتهاء، باتفاق حول ملف طهران النووي كما حول نفوذها الإقليمي. وهذا ما سينعكس مباشرة على أوضاع «حزب الله» وسائر حلفاء إيران، فيسهل التفاهم معهم.
حتى اليوم، ما زال محور طهران يتمسك بمبدأ «وحدة الساحات». ولذلك، بديهي أن يكون حريصاً على حلفائه جميعاً، على كامل البقعة الشرق أوسطية، وأن يدافع عن وجودهم ومصالحهم بما يملك من قوة. وتحرص طهران خصوصاً على «حزب الله»، لكونه درّة التاج، وهي تريد ترميم قدراته التي أصيبت بضربات في الحرب الأخيرة. وبالتأكيد، لن تتهاون في التمسك به، في أي تسوية تعقدها مع الولايات المتحدة.
طبعاً، «الحزب» من جهته يتمسك بالترابط مع إيران، بالمستوى إياه. فهو يعتمد على دعمها في التسليح والتدريب والتمويل. ولا يُخفي القريبون منه هواجسهم من أن يؤدّي الاتفاق المحتمل بين إيران والولايات المتحدة إلى إضعاف مستوى الدعم، ما يضطرّه إلى تقديم تنازلات غير مرغوب فيها، تتعلق بالسلاح والامتيازات داخل الدولة اللبنانية.
وإذا كانت مفاوضات عُمان تتجه إلى اتفاق جديد بين إيران والأميركيِّين في شأن برنامجها النووي، يتضمّن رفع العقوبات عنها، فمن المرجّح أن تحاول طهران الإفادة من الأرصدة التي سيُفرَج عنها لتدعيم نفوذها الإقليمي، كما فعلت بعد اتفاق فيينا 2015. وتالياً، هي ستجد الفرصة سانحة لترميم قدرات «حزب الله». وطبيعي أن يُراهن «الحزب» على هذا الاحتمال، فيتعمّد إطالة أمد الحوار مع أركان الحُكم ليكسب الوقت، لعلّ المفاوضات ترسو على هذه النتيجة.
ويشعر «الحزب» أنّ لديه هامشاً معيّناً للمماطلة داخلياً، حيث لا أحد قادر على ممارسة ضغوط حاسمة في وجهه. وفي الواقع، ليس أمام الأطراف اللبنانية التي تطالب «الحزب» بنزع السلاح، إلّا نجاح الجهود الأميركية في الضغط وإقناعه بالتخلي عن السلاح. لكنّ مواجهته الأكثر عنفاً هي التي يخوضها مع إسرائيل التي تتخذ من السلاح ذريعة لتبرير استمرار احتلالها لمناطق حدودية واسعة، ومواصلة الضربات والاغتيالات في لبنان كله، بما في ذلك بيروت. وهذا الأمر يضع «الحزب» أمام تحدٍ صعب: فمن جهة، هذا السلاح في يده هو الأداة الوحيدة لمواجهة إسرائيل، ومن جهة أخرى، هو الذريعة الوحيدة التي تستخدمها إسرائيل لارتكاب مزيد من القتل والخراب.
العالمون يقولون: سيراهن «الحزب» على أن تأتي التسوية بين إيران والولايات المتحدة متوازنة وتعترف بجانب من نفوذ طهران الإقليمي. فإذا تحققت هذه التسوية، ستمارس واشنطن ضغطاً على إسرائيل لتتراجع في لبنان، وسيتمكن «الحزب» من تجاوز المأزق حينذاك.
ويعترف هؤلاء بأنّ حظوظ تسوية من هذا النوع بوجود دونالد ترامب ليست كبيرة، كما أنّ وجود حكومة اليمين واليمين المتطرّف في إسرائيل يُرجّح الفرضية الأكثر تشاؤماً، أي استمرار الحرب على «الحزب» وإيران بهدف إضعافهما تماماً.
في داخل «الحزب» والبيئة القريبة مَن يُشجّع على مبادرة أكثر جرأة والتصرّف في ملف السلاح كما تصرّفت القوى الأخرى التي كانت مدجّجة بالسلاح في مراحل معيّنة، أي تسليمه، والإفادة من ذلك لقطف الثمار في السياسة. ولكن، أيضاً، هناك مَن يقول: «لا داعي للاستعجال. فلنعاند ونستخدم كل الوسائل ونحافظ على السلاح. وإذا اضطررنا إلى تسليمه في النهاية، تحت الضغط، فلا حول ولا قوة. ولكن، نكون قد قمنا بواجباتنا وبذلنا قصارى جهدنا للحفاظ عليه».
إذاً، قلبُ «الحزب» في لبنان، لكن عَينَه على مسقط. وبالتأكيد، إيران تشجّعه على مقاومة الضغوط ليبقى ذراعها العسكرية الأقوى على حدود إسرائيل والوحيدة الباقية على الشاطئ الشرقي للمتوسط، بعد سقوط نظام الأسد في سوريا. وفي سياق المفاوضات، يمكن لإيران أن تستفيد من نفوذ «حزب الله» للضغط على واشنطن أيضاً، تدعيماً لموقعها التفاوضي.
لذلك، كل الأفكار المطروحة في لبنان حالياً تحت عنوان الحوار في ملف السلاح، بما في ذلك الكلام على استراتيجية دفاعية ستبقى مجرّد أفكار وكلام عام، إلى أن تأتي الكلمة الفصل من عُمان. حينذاك، يتلقى «الحزب» من إيران إشارات بما يمكن القيام به، ومثله أركان الدولة يتلقون إشارات من الولايات المتحدة حول ما يمكنهم القيام به. وبذلك، تبدو مشكلة السلاح أكثر فأكثر مشكلة إقليمية لا محلية. فهناك نشأت وهناك تنتهي.








