بروفيسور في جامعة القدّيس يوسف ببيروت، رئيسة مؤسِّسة لجمعيّة التميّز للأبحاث المبتكرة والاستدامة والتنمية الاقتصاديّة "AXISSED"
مع استقبال العالم لعام 2025، تواجه الدول حقبة تتسم بالتقدّم التكنولوجي السريع، وتغيّر الاقتصادات العالمية، والتحدّيات البيئية. وفي لبنان، يواجه البلد، الذي يتمتع بإرث ثقافي غني، تاريخاً من الصعوبات الاجتماعية والاقتصادية، ناهيك عن الحرب التي توقّفت وفق هدنة هشة. فالتغيير لم يَعُد اختيارياً، بل أصبح ضرورة. ولتأمين مستقبل مستدام، يجب على لبنان أن يتبنّى إصلاحات تدفع المرونة الاقتصادية، وتعزّز الابتكار، وتمكّن مواطنيه من العمل كونهم عناصر التغيير الإيجابي.
شاب تاريخ لبنان الحديث أزمات من عدم الاستقرار الاقتصادي، الجمود السياسي، والاضطرابات الاجتماعية. وقد اختبرت هذه التحدّيات قدرة شعبه على الصمود، وسلّطت الضوء على محدودية أنظمته الحالية.
ومع ذلك، غالباً ما تكون لحظات الشدائد هذه بمثابة محفّزات للتحوّل. ولا يتعلّق التغيير في هذا السياق بإجراء تعديلات سطحية، بل بتحوّل منهجي عميق نحو الاستدامة والشفافية والشمولية.
ففي دول مثل سنغافورة، كان التحوّل حجر الزاوية في النجاح الوطني. إذ تعاملت مع الموارد الطبيعية المحدودة والسوق المحلية الصغيرة، فاستثمرت في رأس المال البشري والبنية التحتية والابتكار.
اليوم، تقف سنغافورة كمركز عالمي للتمويل والتكنولوجيا. ويمكن للبنان، بموارده البشرية المثقفة وذات المستويات التعليمية العالية، وبراعته التجارية التاريخية، وموقعه الاستراتيجي، أن يحاكي هذا النجاح إذا ما نفّذ السياسات الصحيحة وتبنّى ثقافة التحسين المستمر.
تبدأ الاستدامة الاقتصادية بتنويع الصناعات وتعزيز الابتكار. لطالما اعتمد لبنان على قطاعات مثل المصارف والعقارات والتحويلات المالية من المغتربين، لكنّ هذه المجالات وحدها لا يمكن أن تضمن المرونة على المدى الطويل. فثمة حاجة ملحّة للاستثمار في القطاعات الناشئة مثل التكنولوجيا والطاقة المتجدّدة والصناعات الإبداعية المبتكرة.
من الأمثلة على التنوّع الناجح في هذا المجال ما حدث في دولة الإمارات التي تحوّلت من اقتصاد يعتمد على النفط إلى اقتصاد رائد عالمياً في مجالات السياحة، الخدمات اللوجستية والطاقة الخضراء.
بالمثل، يمكن للبنان الاستفادة من أصوله الفريدة من نوعها، فمشهده الثقافي نابض بالحياة بالإضافة إلى روح ريادة الأعمال، والمناخ الملائم، يساعد في تطوير قطاعات مثل السياحة البيئية، والتكنولوجيا الزراعية، والخدمات الرقمية.
لقد أظهرت الشركات الناشئة في بيروت، على رغم من محدودية الموارد، براعة ملحوظة، من شركات التكنولوجيا التي تبتكر حلولاً للأسواق العالمية، إلى الشركات المحلية التي تركّز على الزراعة المستدامة. ومع دعم أكبر، يمكن لهذه المبادرات أن تقود نموّاً اقتصادياً كبيراً.
إنّ التربية أساس أي اقتصاد مستدام. في لبنان، لطالما أنتجت الجامعات تاريخياً خرّيجين ذوي مهارات عالية، لكنّ هجرة بعضهم بسبب عدم اليقين الاقتصادي لا تزال مشكلة حرجة. ولعكس هذا الاتجاه، يجب على المؤسسات التعليمية مواءمة مناهجها الدراسية مع متطلبات الاقتصاد العالمي، مع التركيز على المهارات في مجال التحوّل الرقمي والطاقة المتجدّدة والتنمية المستدامة.
وتوفّر فنلندا مثالاً مقنعاً على كيفية مساهمة التعليم في دفع عجلة التحوّل الاقتصادي. فمن خلال إعطاء الأولوية للابتكار وحلّ المشاكل في نظامها التعليمي، نجحت في بناء اقتصاد قائم على المعرفة يزدهر بالتقدّم التكنولوجي.
يمكن للجامعات اللبنانية اعتماد استراتيجيات مماثلة، وتعزيز الشراكات مع المؤسسات والصناعات الدولية لإعداد الطلاب للقيام بأدوار قيادية في القطاعات الناشئة.
كما ويتطلّب تنشيط الاقتصاد اللبناني التركيز على التنمية المحلية. فالمناطق الريفية، التي غالباً ما يتمّ تجاهلها في الاستراتيجيات الوطنية، تنطوي على إمكانات غير مستغلّة. فالاستثمارات في تحديث الزراعة وتطوير السياحة البيئية وتشجيع الحِرف اليدوية، يمكن أن تولّد فرص عمل وتعزّز سبل العيش.
على سبيل المثال، نجحت رواندا في استخدام السياحة البيئية لحماية مواردها الطبيعية وخلق فرص اقتصادية. واجتذبت جهودها في الحفاظ على المنتجعات الجبلية، السياح مع دعم المجتمعات المحلية.
كما يمكن للبنان، بمناظره الطبيعية الخلاّبة ومواقعه التاريخية، أن يجذب المسافرين المهتمّين بالبيئة عن طريق تعزيز ممارسات السياحة المستدامة. ويمكن وضع برامج تشجّع ريادة الأعمال المحلية في المناطق الريفية، وتحفيز الزراعة العضوية، ودور الضيافة التي يقودها المجتمع المحلّي، بشكل يضمَن توزيع المنافع الاقتصادية على نطاق واسع.
من ناحية أُخرى، نرى أنّ التغيير ليس مسؤولية الحكومات وحدها، بل يتطلّب عملاً جماعياً. فالمواطنون اللبنانيّون، رجال الأعمال، والمغتربون لديهم جميعاً أدوار يؤدّونها في تشكيل مستقبل البلاد.
ومن الضروريّ الدعوة إلى الحَوكمة الرشيدة. ويجب على المواطنين المطالبة بإصلاحات تعزّز الشفافيّة وتحدّ من الفساد، وترسّخ الثقة في المؤسسات. لنرى نوراً جديداً متجدّداً في هذا العام الجديد.
وللشركات أيضاً دور في دفع عجلة التغيير، فيمكن لمبادرات المسؤولية الاجتماعية للشركات أن تدعم الاستدامة البيئية والتعليم والتنمية المجتمعية. ففي الدنمارك، على سبيل المثال، تُلزَم الشركات بدمج المسؤولية الاجتماعية في عملياتها، ما أدّى إلى تقدّم كبير في مجال الطاقة المتجدّدة وإدارة النفايات. ويمكن للشركات اللبنانيّة أن تحذو حذوها بواسطة تبنّي الممارسات الخضراء والحدّ من النفايات والاستثمار في المجتمعات المحلية.
أمّا دور المغتربين اللبنانيّين، فلا يقتصر على الاقتراع، أو إرسال الأموال، أو الزيارات من نوع «زوروني كل سنة مرّة»، بل هم قوّة فاعلة للتغيير. فمن خلال الاستثمار في الشركات الناشئة، مشاركة الخبرات، وتعزيز الشراكات الدولية، يمكنهم أن يساعدوا في سدّ الثغرات في الموارد والمعرفة.
كما رأينا، وبينما يخطو لبنان خطواته الأولى في عام 2025، يواجه تحدّيات هائلة وفرصاً استثنائية. فمن خلال تبنّي التغيير، يمكن لبلد الأرز بناء اقتصاد مرن وشامل ومستدام. ستتطلّب مسيرتنا شجاعة وتعاوناً والتزاماً بالابتكار، لكنّ المكافآت المحتملة وكما ذكرنا فهي عديدة، من اقتصاد مزدهر، مجتمعات ممكّنة، وشعور متجدّد بالفخر الوطني، تستحق الجهد المبذول.
فلطالما كانت قصة لبنان قصة مرونة وتجدّد. والوقت الآن وقت التفاؤل والخير لتحويل هذه الروح إلى نموذج للتنمية المستدامة. ومن خلال العمل كعوامل للتغيير، يمكن للمواطنين اللبنانيّين والشركات وصانعي السياسات اللبنانيّين أن يضمنوا ليس فقط بقاء البلد على قيد الحياة، بل ازدهاره في السنوات المقبلة.
هكذا، نجد أنّ التغيير من أجل لبنان أفضل يعتمد على التحوّل الداخلي عند كل لبناني ليكون وكيل استدامة اقتصادية حقيقياً. فالحاجة إلى التغيير تعتمد على الابتكار والتنويع، بالإضافة إلى التعليم وتنمية رأس المال البشري، كما تعزيز الاقتصادات المحلية، وتمكين مجتمعاتها. وهذه الرؤية المستقبلية للبنان لا يمكن أن تصبح حقيقة من دون أن تكون مسؤولية جماعية على المستويات كافة، وفي ظل التغييرات السياسية في المنطقة التي كانت أشبه بالمعجزة، لن يعجز اللبناني واللبنانية على أن يكونوا أدوات فاعلة، إذ آنَ الأوان لنقرأ علامات الأزمنة في البلد والمنطقة، ونكون أداة فاعلة في التغيير والتحوّل الداخلي الجوهري، باتباعنا النور الذي يقود إلى خلاص لبنان.