أَليْسَ أنّك، وُلدتَ في مغارة، في مزودٍ على فراشٍ من القشّ، تتقاسم الأنفاس مع خرافٍ لم تتلوّث بالخطيئة والإثم؟ أَليسَ أنّ المجوس من مملكة فارس هم الذين بشَّروا بك وجاؤوا يسألون عن ملك اليهود ليسجدوا له (1)، فإذا المجوس اليوم هُمْ ملوكٌ متألِّهون يفرضونَ السجودَ لهم؟ أليس أنك وُلدْتَ فقيراً وعشتَ فقيراً، تُحصِّلُ عيشك بالكدِّ، عاملاً في حانوت النجار، تعاني الحرمان والجوع، ولا يزال أبناء آدم يسقطون من الفردوس بسبب شهوة الأكل؟ أليس أنّ قيصر هو الذي طاردك طفلاً وأمرَ بقتل جميع أطفال بيت لحم فَهربوا بكَ إلى مصر، فكُنْتَ أولَ من يعاني مرارة النزوح، ولا يزال القياصرة يبطشون بالأطفال والشعوب، ولا تزال فلسطين منذ هيرودس تشهد أفجع المذابح وأرهَبها؟ مملكتكَ ليست من هذا العالم فلماذا فعلَتِ الممالكُ القيصريّة بمملكتك الإنسانية والروحية التي انتشرتْ في كلِّ أصقاع الأرض؟ ماذا حلّ في مملكة الغساسنة المسيحية في بلاد الشام والتي تحوّل فيها بولس الرسول إلى المسيحية؟ ماذا حلّ في بلاد ما بين النهرَين؟ وقد اهتدى فيها فيها على يَد القدّيس سمعان العمودي عرَبُ الحيرة؟ وماذا عن عاصمة المناذرة في العراق... وعن مملكة كَنْدا المسيحية التي حكَمتِ الحجازَ والبحرين وصولاً إلى اليمن؟ (2)
ماذا، عن أرض الجليل التي تنتسب إليها أمُّكَ مريم، والتي كانت ميداناً للبشارة الإنجيلية فأصبحت ميداناً للمجازر؟ وهل تتكرّم اليوم، وتكرّر تجوالك الذي قُمْتَ به بين تخوم صيدا وصور، وبين المدن العشْر في منعطف لبنان الجنوبي إلى النبطية ونهر الليطاني وقانا وجنوب شرق بلاد بشارة؟ (3)
هذه الأرض التي تقدّسَ ترابُها بتجوالك أصبحتْ أرضاً محروقةً وبلاداً مهجورة بسبب سوءِ المصير وسيف سلالة هيرودس. منذ أنْ تفتَّحتْ عيناك على الدنيا، وتكلَّمتَ في المهد، بلغةِ المحبة بشَّرتَ، بالغفران الذي شرطٌ أساسيّ للوحدة، بالأخوّة البشرية، بالتسامح والتضامن ونبْذِ العنف والبغضاء لتحقيق السلام لبني البشر. ومنذ أنْ غادرتَ هذه الدنيا، حاولتَ أنْ تُخرجَ الشياطين من نفوس المجانين، فتغلَّبتْ غرائزُ الشيطنة في النفوس، وشاع الكفر إلى حدّ إعلان موت الله. عند مجيئكَ الأول كنتَ تُشير إلى حالة العالم فتقول: "كثُرَ شرُّ الناس في الأرض وارتدّوا عن الربّ، إتَّبعوا تصوُّراتهم النجِسة وآراءهم الفاسدة فهلكوا بفعل شرورهم (4)".
وها هو العالم اليوم، أكثر ما يكون شراً وأخطر ما عنْفاً، فما اهتدى بما بشَّرتَ، فإذا أيام الحرب تتغلَّبُ على أيام السلم، مملكة تنقلبُ على ممالك، نزاعات، صراعات، مجازر، والشعوب خرفانٌ محلَّلَةٌ للذبح. عندما قبضوا عليك، إستلّ بطرسُ سيفَهُ وقطَع أذنَ عبدِ رئيس الكهنة، فأبْرأتَ أذنَ العبد وقلتَ لبطرس: "ردّ سيفَكَ مَنْ أخذَ بالسيف فبالسيفُ يؤْخذ" (5). فإذا كنتَ مصرّاً على مجيئك الثاني إلى هذا العالم وقد تكاثر فيهِ الشرّ، أرجو ألّا تمنع بطرس من أنْ يستلَّ سيفهُ.
1- متّى: 2 - 1 2. 2- مخطوطة البطريرك ميخائيل يعقوب - كتاب الحيرة العاصمة والمملكة: يوسف رزق الله: بغداد ص: 115. - الطبري تاريخ الرسل والملوك ج2 - ص: 92. 3- مرقس: 7-31. 4- تكوين: 6. 5- لوقا: 22-51.