كتب محمد الماغوط مخاطباً الوطن: «أيّها الوطن البتول الجارف كالطوفان رويدك عليّ لألتقط قبعتي وعكازي وأنفاسي، فأنا لا أتنكّر لأحلامي بهذه البساطة. أنا لا أنكر أنني نمتُ في أحضانكَ وركبتُ على ظهركَ وجدرانكَ في طفولتي واحتميتُ بجدرانكَ في شيخوختي، لكن أن تركب على ظهري طوال العمر مقابل ذلك، ومشترطاً أن يلامس جبيني سطح الأرض فلن أقبل: فوقه بقليل ممكن فأنا أيضاً عندي كرامة».
هل يعيش لبنان في عيد استقلاله عن الانتداب الفرنسي في 22 تشرين الثاني مرحلة الانتدابات المتعدّدة من الداخل والخارج شرقاً وغرباً!؟ هل نشهد في ذكرى عيد استقلالنا عن الاستعمار الفرنسي الكولونيالي تاريخياً حضور الدول الجديدة المنتدبة من النظام العالمي العميق إلى منصة الشرف الافتراضية في المقاعد الأمامية الافتراضية يوم العرض الرمزي الافتراضي في ذكرى عودة الوطن الافتراضيه في ذلك الوقت إلى ما تبقّى من الوطن الافتراضي في هذه الذكرى الافتراضية!؟ هل بلادنا سجينة المحبسين تاريخياً... «النهوض» من ناحية، و»التدريب» من الناحية الأخرى على الحُكم حتى نصبح قادرين على أن نستقلّ ونتعلّم كيف نحكم أنفسنا بأنفسنا بعد مرور كل هذه الحروب والأحداث والموت والقيامة بعد القيامة!؟ هل الإنتداب الدائم من هنا ومن هناك ومن ههنا وههنا قدر هذه البلاد العصية على الاستقلال والسيادة والحرّية والتحرّر وقيام الدولة المدنية الوطنية الديمقراطية الدستورية.
دولة المواطنة والدستور العصري الحديث!؟ هل وجدت في تلك الأيام من زمن ما قبل ما يُسمّى «الاستقلال» فكرة فرنسا وإنكلترا، ضالتهما المنشودة لتغليف مطامعهما بهذا القالب الجديد الذي أتاح لهما احتلال الأقطار العربية المنفصلة عن الدولة العثمانية، بحجة الوصاية على شعوبها، إذ إنّ الانتداب كان قد بدأ، منذ أول عهده بشكل الوصاية على الحماية، الملقاة على الشعوب المتخلفة في مضمار الحضارة كما يحسبها الغرب على مقياس مصالحه الرأسمالية الداخلية والإمبريالية الكولونيالية الخارجية !؟ كان لا بُدّ لهذه الفكرة من أن تتجلّى في وثيقة أساسية وتاريخية كالميثاق الذي نشأت عصبة الأمم على أساسه، فنصّ الميثاق في مبادئه الاثنين والعشرين على أنّ البلدان التي كانت خاضعة إلى دول الوسطي وحلفائها، ولم تبلغ بعد المستوى الذي يمكنها من ممارسة استقلالها، يجب أن توضع تحت انتداب إحدى الدول الكبرى، على أن تمارس الدول المعنية هذه الوصاية بوصفها منتدبة من جمعية الأمم وباسمها.
تعود فكرة الانتداب إلى المارشال جون سمطس الذي مثّل جنوب إفريقيا في لندن، في خطاب كان ألقاه في أواخر الحرب العالمية الأولى، تعقيباً على إعلان الرئيس الأميركي توماس وودرو ويلسون، الذي «شجب» فيه الاحتلال والاستعمار! وتعقيباً على هذا المبدأ توزّعت الانتدابات المنوي إنشاءها إلى ثلاثة أنواع: الانتداب الذي تناول الأقطار العربية المنسلخة عن تركيا، وهو النوع الأسمى في حين أنّ النوعَين الآخرَين قد تعلّقا بمستعمرات ألمانيا السابقة في إفريقيا والشرق الأقصى. كانت هذه الصيغة «المبتكرة» في وكر الدولة العميقة تبريراً «مثالياً» لإتفاقية سايكس - بيكو في تقسيم المنطقة، بعد إعلان مبادئ الرئيس ويلسون الـ 14 و»سيناريو» حق تقرير المصير الشكلي والدعائي في البروباغندا الصفراء الذي استقبلته الشعوب البسيطه بابتهاج عارم كما هي عادة الشعوب العفوية. وفي ظروف ما بعد الحرب التي خلقتها وعود الحلفاء وادعاءاتهم بأنّهم يحاربون دفاعاً عن حرّية الشعوب.
ومن هنا كانت فكرة انتداب دولة «متمدّنة» للأخذ بيد دولة «متأخّرة» باعتبارها وديعة «مقدّسة»، قناعاً للوصول إلى السيطرة الاستعمارية وافتراس تلك الشعوب بدمٍ بارد! كل يوم يمرّ في لبنان تختفي معه هوية عصرنا إلى الأبد. كل يوم يغيب في لبنان تختفي معه وتغيب بعض من أسمائنا وبعض من ملامحنا. كل يوم يمر تُمحّى معه حروف من الذاكرة الفردية والذاكرة الجماعية والذاكرة الوطنية واللغة. كل يوم يمرّ في لبنان نعيش ونموت في دوامة الانتداب المتواصل من هنا ومن هناك. نموت من الارتفاع الدراماتيكي والسقوط الصامت نحو الهاوية. كل يوم يمر في لبنان من دون حساب؛ الأغنياء يزدادون غنى والفقراء دوماً يزدادون فقراً. في كل يوم ثمة أقلية تعرف أكثر، وأخرى تختفي أكثر. الجهل يتسع بطريقة مخيفة حقاً. لا أعرف إذا ما كانت الظلال أم الخيالات تحجب الواقع عنا. أو نحن من نحجب أنفسنا! ربما يمكننا مناقشة الموضوع إلى ما لا نهاية... ما هو واضح حتى الآن هو أنّنا فقدنا مقدرتنا الفردية والجماعية على تحليل ما يحدث حولنا. إذ نبدو سجناء داخل كهف الانتداب الأفلاطوني المتعدّد تاريخياً. تخلّينا عن مسؤوليتنا. تخلّينا عن التفكير. تخلّينا عن الفعل. وحوّلنا أنفسنا إلى كائنات خاملة غير قادرة على الإحساس بالغضب والوقوف، وعلى رفض الانصياع، والقدرة على الاحتجاج التي كانت سمات قوية لماضينا الحديث - إنّنا نصل إلى نهاية حضارة الوقوف والموت وقوفاً. إنّنا نصل إلى بداية انتدابات جديدة أخرى. انتدابات عديدة أخرى. إننا نصل إلى بداية السجدة الأخيرة. كلّما وصلنا إلى أوطاننا سقط أولنا على قوس البداية. فتباً للبداية. وتباً للنهاية!؟
«من الغباء أن أدافع عن وطن لا أملك فيه بيتاً. من الغباء أن أضحّي بنفسي ليعيش أطفالي من بعدي مشرّدين. من الغباء أن تثكل أمي بفقدي وهي لا تعلم لماذا مُتُّ. من العار أن أترك زوجتي فريسة للكلاب من بعدي. الوطن حيث تتوفّر لي مقوّمات الحياة، لا مسبّبات الموت. والإنتماء كذبة اخترعها الساسة وأصحاب السلطة واللصوص لنموت من أجلهم. لا أؤمن بالموت من أجل الوطن. الوطن لا يخسر أبداً، نحن الخاسرين. عندما يُبتلى الوطن بالحرب ينادون الفقراء ليدافعوا عنه. وعندما تنتهي الحرب ينادون الأغنياء ليتقاسموا الغنائم. عليك أن تفهم أنّ في وطني تمتلئ صدور الأبطال بالرصاص وتمتلئ بطون الخونة بالأموال. ويموت مَن لا يستحق الموت على يَد من لا يستحق الحياة!». «من الغباء أن أدافع عن وطن لا أملك فيه بيتاً. من الغباء أن أضحّي بنفسي ليعيش أطفالي من بعدي مشرّدين»