موجتان متلاحقتان من الهجوم الإلكتروني الإرهابي على امتداد يومَين متتاليَين، غيّرتا قواعد الحرب بين «حزب الله» والكيان الإسرائيلي، ونقلتاها إلى طور جديد يختلف كلياً عمّا سبق، على وقع قرار تل أبيب بتحويل ثقل المواجهة نحو جبهة الشمال بالترافق مع إعلانها عن توسيع أهداف الحرب لتشمل إعادة النازحين إلى مستوطناتهم التي هجروها منذ 8 تشرين.
بناءً عليه، يوحي سلوك بنيامين نتنياهو بأنّه يحاول أن يأخذ المواجهة مع المقاومة في اتجاه نوع من «المصارعة الحرة» التي تسمح له بتوجيه ضربات تحت الحزام والتفلّت من قواعد الاشتباك التي حرص «حزب الله» طيلة مراحل الحرب على حمايتها وإعادة ترميمها كلّما تجاوزها الإسرائيلي.
وقد صار واضحاً أنّ ما بعد «العدوان التقني» الإسرائيلي الواسع هو غير ما قبله، بعدما قرّر نتنياهو أن يستخدم عنصر التفوّق الاستخباري لشنّ أقذر أنواع الحروب السيبرانية على لبنان، من دون مراعاة أي معيار أخلاقي أو إنساني، مفترضاً أنّها ستكون الأقل كلفة عليه والأكثر إيلاماً للمقاومة، وأنّها ستساهم في الضغط على «حزب الله» وإضعافه.
واللافت في الهجوم الإجرامي على حاملي أجهزة الاتصال أنّه لم يفرّق، عن سابق تصوّر وتصميم، بين الناس والمقاتلين، في اعتباره أصاب عاملين في مؤسسات مدنية للحزب وعائلاتهم، وفق ما يتضح من وجود أطفال ومدنيّين ضمن الضحايا، إلى جانب عدد من المقاومين الذين كانوا منخرطين في شؤون حياتهم اليومية خارج الميدان.
بهذا المعنى، فإنّ العدوان الإسرائيلي غير المسبوق تعمّد، في سياق أهدافه المتدحرجة، أن يُصيب على نحو مباشر الجبهة الداخلية لـ«حزب الله» وبيئته الحاضنة، كما شرح السيد حسن نصرالله في خطابه أمس، وليس فقط الجسم العسكري الميداني. وذلك في إطار السعي الدؤوب إلى تأليب الناس على المقاومة وتوليد شعور لديهم بأنّها أصبحت عبئاً عليهم وليست مصدراً لحمايتهم.
من هنا، أرادت قيادة الاحتلال الإسرائيلي إحداث صدمة في الخطوط الخلفية للمقاومة وزرع الفوضى والهلع فيها، بغية زعزعة الحزب ومنظومته من الداخل وضرب معنويات عناصره ومناصريه معاً، بالتالي إيصال رسالة بأنّ أصابعها قادرة على العبث بالعمق الحيوي للحزب وتستطيع أن تستعيض بها عن خيار الحرب الشاملة إذا كان متعذّراً لهذا السبب أو ذاك.
وهناك من يلفت إلى أنّ نتنياهو أراد «ابتزاز» الحزب ببيئته الشعبية، وحاول إمساكه من اليَد التي توجعه عبر التصويب المباشر على حاضنته الأهلية، آملاً في أن يدفع ذلك قيادة المقاومة إلى فكّ الارتباط عن غزة والخضوع إلى اتفاق مفصّل على قياس الكيان.
وليس خافياً أنّ هناك مسعى قديماً من قبل أعداء «حزب الله» لاختراق بيئته الحاضنة بوسائل مختلفة تراوج بين الترغيب والترهيب، بغرض استقطابها وإيجاد شرخ بينها وبينه، كونها تشكّل رافده الأساسي وشبكة الأمان المجتمعي له، إذ إنّ أي ضعف أو وهن يصيبها سينعكس عليه تلقائياً.
لكنّ الناشطين في هذه البيئة والعارفين بمزاجها يشيرون إلى أنّ كل التجارب والتحدّيات السابقة أظهرت أنّها محصّنة إلى حَدٍّ كبير في مواجهة مختلف فصول «الحرب الناعمة» التي تُخاض ضدّها.
ويؤكّد هؤلاء أنّ تلك البيئة ستكون قادرة هذه المرّة أيضاً على احتواء مفاعيل النمط الجديد من الاستهداف الدموي الذي تعرّضت له في عقر الدار، من دون تجاهل ما رتّبه هذا الاستهداف من ثمن مرتفع.
ولأنّ الحرب النفسية هي جزء أساسي من معادلات المواجهة الحالية، فإنّ خطاب الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله نجح في استنهاض الروح المعنوية لـ«البيئة» مجدّداً، عقب الإضطراب الموضعي الذي عانت منه تحت تأثير الهجوم الإلكتروني، لاسيما أنّه سرد بالوقائع كيف جرى تعطيل أهداف الضربة الإسرائيلية.
ولعلّ التضامن اللبناني، العابر للطوائف والاصطفافات، مع الحزب وبيئته ساهم بدوره في التخفيف من وطأة الضربة الغادرة وانعكاساتها، وإن يكن لا تجوز المبالغة أو المغالاة في البناء السياسي الطويل الأمد على هذا التعاطف المرحلي.