على وقع أصوات التنديد والتهديدات المتبادلة بالثبور وعظائم الأمور بين إسرائيل و»حزب الله» التي تردّدت أصداؤها في وادي المواجهة الإسرائيلية ـ الإيرانية، ومعها التسريبات التي قالت إنّ الموفد الرئاسي الأميركي عاموس هوكشتاين وجّه رسائل التهديد في الاتجاهَين باحتمال وقف وساطته إن لم يتمّ لجم الخيارات العسكرية لحساب السياسية والديبلوماسية، فإنّ ما تسبّبت به الصواريخ الخارقة بقِيت أعلى من أي صوت آخر، وخصوصاً أنّها تزامنت وبحور الدم في العمليات البرية جنوباً. وعليه، ما هو المصير الذي سيلقاه هوكشتاين بين هامشي النجاح أو الفشل إن كان مدعوماً لإنجاز مهمّته أو العكس؟
ثمة بين الخبراء الاستراتيجيّين والديبلوماسيّين مَن يعترف بأنّ جولات العنف التي تصاعدت في الأيام الأخيرة بطريقة غير مسبوقة، لم تشكّل أي مفاجأة بالنسبة إليهم، في ظل ما رُصد لهذه الحرب من إمكانات عسكرية وديبلوماسية ومالية واقتصادية. فالحديث عن عشرات المليارات من الدولارات الأميركية التي أنفقتها أطراف الحرب، تبقى خير دليل إلى حجم كلفتها. ولا يخفي هؤلاء أنّ ما رافق بعض المحطات التي ميّزتها، قد تجاوزت كل السيناريوهات المتوقعة، وباتت من الحروب المميّزة التي عجزت الدول الكبرى ومعها القمم والمؤسسات الدولية الضامنة للأمن والسلام الدوليَّين من وضع حدّ لها، وهو ما تُرجم بانهيار مشاريع المبادرات لأسباب لم يتضح كثير منها بعد.
وتأسيساً على ما تقدّم، فقد تحدّثت سلسلة من التقارير الديبلوماسية المتبادلة بين العواصم الكبرى، عن سلسلة من المفاجآت التي لم تكن محتسبة قياساً على حجم التفاهمات التي انهارت تباعاً. وهو ما ردّته مصادر عليمة إلى ما رافق بعضها من تلاعب بالمواقف، بمعنى الإعلان عمّا هو غير مضمر مضافة إلى الوثائق الملغومة بطريقة ملتبسة قابلة للنفي والتشكيك في شكلها ومضمونها. عدا عمّا ظهر من حرص لدى المسؤولين اللبنانيّين على حجب ما هو مطروح من تفاصيل عن الرأي العام، لأسباب تتصل بمشاريع ارتبطت بسياسات غامضة وتعهدات لا يمكن البَوح بها على حقيقتها، إلى درجة استدعت التدقيق الصعب في ما حملته من تناقضات. ولذلك، فقد استحال معها فهم الخلفيات التي بُنيَت على ما يمكن تسميته أعمالاً غادرة واختبارات مزجت فيها تل أبيب بين القدرات العسكرية وبين ما يوفّره الذكاء الاصطناعي من مفاجآت صادمة.
لا تقف الأمور عند هذه النظريات الملتبسة، والتي يمكن أن تخضع إلى نقاش واسع من دون نتيجة واضحة. فالسباق الذي كان قائماً بين الخيارات العسكرية من جهة والسياسية والديبلوماسية من جهة أخرى بلغ الذروة. وقدّمت الوقائع نماذج ممّا يمكن أن تكون عليه «الحروب الجديدة» التي دفعت إلى نسيان كثير من مظاهر «الحروب التقليدية»، ولا سيما منها تلك التي قيست بما جرى في حرب تموز 2006 بالنظر إلى ما جُنّدت لها من قدرات كانت مخفية على بعض الحلفاء قبل أن تكون بعيدة من متناول الأعداء والخصوم، فسقط معها كثير من المعادلات، ومنها التي كانت تتحدّث عن توازن ما في الردع والرعب، وانهارت برامج كانت قد أُعدّت قبل أن يأتي أوانها، وصرف النظر عن أخرى بعدما فقدت فاعليتها كاملة.
وبالعودة إلى المحاولات الأخيرة التي قادها هوكشتاين لوقف إطلاق النار، وما يمكن أن تليه من خطوات سياسية وديبلوماسية فرضها التفاهم على إحياء القرار 1701، وما قال به من بنود بالغة الأهمية والدقّة، فإنّ إهمالها تُرجم بعدم تنفيذها طوال السنوات التي فصلت بين تاريخ صدوره والأحداث الأخيرة، بإقرار جميع الأطراف الذين اعترفوا متأخّرين بمثل هذه المهزلة التي امتدّت 17 عاماً. وعليه بقي ما هو ثابت أنّ المفاوض اللبناني بصفتيه الرسمية الشكلية، وكمفَوَّض من قيادة «حزب الله» أنّه أقرّ أخيراً بالفصل بين حربَي «الإلهاء والإسناد» على الجبهة الجنوبية و»طوفان الأقصى» في غلاف غزة وما انتهى إليه كل منهما. وهو ما يعدّ تطوّراً بالغ الدقة طالما انتظره الوسيط الأميركي ومعه حلفاؤه وكل مَن تعاطى بنيّته الصادقة أو تلك الخبيثة.
وإزاء هذه المؤشرات والمعطيات، تقول مصادر ديبلوماسية: «لا يكفي أن يعلن الجانب اللبناني بصفتَيه الشرعية وغير الشرعية، قبوله الفصل بين الحربَين، ذلك أنّ ما هو مطلوب من خطوات قد تكون صعبة إن لم تكن مؤلمة ولم يصارح المفاوض اللبناني الرأي العام بها، في ظل تغييب المؤسسات الدستورية. فليس كافياً أن يُقال أنّ رئيس الجمهورية الذي أناط به الدستور صلاحية المفاوضات ما زال مفقوداً، فقد تمّ تغييب ما تبقّى من هذه السلطات، ولم يردّ المفاوض اللبناني مرّة على مناداة النواب بمناقشة ما هو مطروح. وهو أمر لم يكن مفاجئاً طالما أنّ لبنان الذي استُدرج إلى هذه الحرب من دون إرادة او استشارة حكومته ولا مؤسساته، لم يناقش من قِبل تفاهماً عُقد حول حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة في البحر، قبل أن تتدحرج الروايات التي تحدّثت لاحقاً عن تعهّدات منعت «المقاومة» من المسّ بالثروة النفطية الإسرائيلية، على رغم من أنّ أي عملية تطاولها، لو كان مسموحاً القيام بها، لتسبّبت بتعديلات في موازين القوى فيها وربما كانت أكثر إيلاماً.
وبناءً على ما تقدّم، وفي ظل التكتم الذي يصرّ عليه المفاوض اللبناني، بقي على اللبنانيّين أن يرصدوا التسريبات الأميركية والإسرائيلية، بما فيها من ألغام نُصبت لمصلحة الجبهة الداخلية في إسرائيل والولايات المتحدة، وقد باتت على كل شفة ولسان، في مقابل صمت لبناني مريب بقيت بسببه ردات الفعل الداخلية مبنية على تكهّنات لا تخضع إلى أي مسوّغ في بعض الحالات، فيما تُعتبر أخرى من أخطر الملاحظات التي يمكن أن تؤجّل ما هو منتظر من ألغام متفجّرة في المرحلة التي تلي وقف النار والمباشرة بتنفيذ ما هو مطلوب، مع ما يمكن أن تحدثه من ردّات فعل مذهلة إن باتت معلّقة على ما هو مضمر ولم يُتداول به حتى اللحظة.
ويبقى البحث في مصير مهمّة هوكشتاين مدار أخذ وردّ يتراوح بين هامشَي النجاح والفشل العزوف عن المهمّة أو التمديد له في العهد المقبل، بسبب فقدان أي معلومة دقيقة تقود إلى موقف حاسم مما هو ثابت ويَقين. وإلى أن تأتي لحظة الحقيقة، لا يمكن التكهّن بما ستكون عليه ردّات فعل اللبنانيّين، وخصوصاً عند تقدير الكلفة التي ترتبت عليهم، وعمّا إذا كانت تتساوى وحجم التضحيات الكبرى على مستوى الوطن. فلا تقف الأمور كما يُشاع اليوم عند مصير وأوضاع طائفة أو مذهب فحسب. فما جرى جعل منهم طائفة واحدة منكوبة ومألومة إلى حين.