شبعنا حروباً داخلية
فادي عبود
Friday, 22-Nov-2024 06:40

الأجواء الداخلية اليوم في لبنان وهو يتعرّض لحرب شرسة مدمّرة، تعكس صورة قاتمة عن مدى وحدة المجتمع وتلاحمه، فكثرت الانشقاقات الطائفية والاتهامات المتبادلة، وتخوين الآخر وصولاً إلى حَدّ تكفيره، واختفى الحوار العقلاني المنفتح، وتعكس وسائل التواصل الاجتماعي هذه الصورة البشعة، إذ تحوّل مجرّد إبداء رأي في موضوع ما إلى سبب للهجومات المتبادلة، وطغت لغة الطائفية المقيتة ولغة التهديد والتوعّد على كل ما عداه. جيوش إلكترونية مقابل بعضها وردّات حاضرة ناطرة واقتتال على السماء وخسارة الأرض!

هذه الصورة تجعلنا نفكّر مجدّداً في قدرة مجتمع كهذا على خلق وطن مزدهر منتج، قادر على توفير الأمن والأمان والبحبوحة لأبنائه. إذ يُعيد الكثيرون فكرة التقسيم وأنّه لا أمل في العيش معاً. ممّا لا شك فيه أنّ الطريق الأفضل هو أن نتفاهم بعضنا مع بعض ونعمل لبناء وطن موحّد قادر على الإزدهار والحياة وتأمين الحقوق والكرامة لأبنائه، خصوصاً أنّ هناك قوى خارجية يهمّها ألّا نتفاهم وأن نلجأ إلى التقسيم المدمّر الذي يتحقق عبر الإقتتال والحروب. لكن إذا توصّلنا إلى اقتناع في أنّنا غير قادرين على التفاهم، ولا يهمّنا أن نبذل جهداً لتحقيق التفاهم، فحينها من الحماقة أن نتّجه إلى التقسيم عن طريق القتال إذا كان التقسيم شراً لا بُدّ منه، علماً أنّ أبغض الحلال عند الله الطلاق، فلنكن عقلانيّين ونتحاور للوصول إلى الصيغة الأفضل التي يتوافق عليها جميع الأطراف، وبذلك نقطع الطريق على مَن يهمّه أن يُدخلنا في نزاعات وقتال يدمّر الجميع. لأنّنا شبعنا من الحروب الداخلية. يبقى الحل أن تجتمع الأطراف وتتحاور وتخلق تفاهمات بعقلية منفتحة وتتفق على أفضل الصِيَغ لبناء لبنان. وعندما تتحاور، على كل طرف أن يضع نفسه مكان الآخر، وأن يكون الحوار منطلقاً من إرداة المحبة والتآخي، وتقديم التنازلات لمصلحة الوطن، لأنّ التقسيم هو رجوع إلى الوراء، فكل وجوه التقدّم في العالم تمرّ بالاجتماع بين مجموعات مختلفة لتحقيق ثقل اقتصادي وسياسي... أما إذا تبيّن بعد كل ذلك أنّنا لا نريد العيش معاً، فالأفضل عدم الاستمرار في مسرحية اسمها وطن، والبقاء «إجر بالبور وإجر بالفلاحة»، فلننتقل إلى تصوّر واقعي للتقسيم يُراعي ظروف المناطق، بطريقة سلسة غير تصادمية أو قتالية، خصوصاً أنّ التقسيم يستوجِب التفكير في تفاصيل عدة منها التنقل بين المناطق وشكل الحكم والعلاقات... ونكرّر ألّا ننجرّ إلى القتال الذي يفرض التقسيم بل أن نبقى على وفاق، لنكون في ما بعد جيراناً وأصحاباً قادرين على التعاون وخلق اتفاقات لتحقيق تنمية مناطقنا واقتصادها، وهذه أمور غير مستحيلة إذا كان الجميع «أوادِم» ولا نيّة للغدر، وأن لا يستقوي أحد على جاره بقوى خارجية. فهذه القوى يسرّها أن ترى تعتيرنا، فلم تنزعج حين دمّرنا أنفسنا في الحرب الأهلية، ولم تحرّك ساكناً عند قصفنا في حرب تموز، ولا تحرّك ساكناً في حرب اليوم ولبنان يتمّ تدميره، بل على العكس مَوّلت هذه الحروب، ولم تتأثر حين تمّ إفلاسنا بسياسة تشبه ما يُسمّى «القاتل الاقتصادي». سيبدو حديثي مُستغرباً، وقاسياً، وأنّني أدعو إلى التقسيم وأروّج له، لكن الأقسى أنّنا حتى اليوم لم نقم بمحاولة جدّية أو تضحيات للتقرّب بعضنا من بعض لمصلحة الوطن. نحن كانتونات طائفية تتنازَع في المجلس والحكومة وفي الإدارات، نحن عاجزون عن إقرار زواج مدني، وأيّ تبادل علمي أو ثقافي أو حضاري، عاجزون عن التوحّد حول برامج اقتصادية، فيسقط أي قرار إذا كان يمسّ الطائفة، وتُنسف تعيينات لأنّ هناك طائفة مغبونة، ونحمي فاسداً إذا كان من طائفتنا ويتحوّل خطاً أحمر. لا نستطيع أن نوظّف عامل تنظيفات مسيحياً في دائرة حكومية إذا لم نجد مقابله عامل تنظيفات مسلماً، إلى درجة أنّ شرطي السَير عليه أن يوازن بين محاضر الضبط، فإذا أعطى محضر ضبط لرجل ماروني، يسأل صاحبه أن يفتش عن مخالف للسَير مسلم ليعطيه محضر ضبط، وإذا لم يَجد فهو مضطر لإلغاء المحضر وترك الرجل في سلام (هذه على سبيل المزحة، لكنّها تعكس الواقع الذي نعيشه). إذاً، أضعف الإيمان ألّا نستمر في طمر الرؤوس في الرمال، ونرى الأمور على حقيقتها. ونذكّر أنّ ما يعيد الثقة بين مكوّنات المجتمع الواحد هي الشفافية، فقبل أن نجرّب التقسيم، لنجرّب طريق الشفافية ونرى النتائج.

الأكثر قراءة