

كان النظام الاقتصادي العالمي الذي شكّلته الولايات المتحدة وقادته لأكثر من ثلاثة أرباع قرن، مدفوعاً برؤية موجّهة قوية: إنّ التجارة والتمويل يجب أن يعتمدا على التعاون والرضا بدلاً من الإكراه.
ذلك النظام، على رغم من عيوبه، رسّخ مكانة الولايات المتحدة كأغنى دولة في العالم وقوّتها المالية الوحيدة. وساعدت سيادة القانون والاستقرار والثقة التي ولّدها هذا النهج، في جعل الدولار العملة المفضّلة عالمياً للمعاملات، كما جعلت أميركا مركزاً للاستثمار العالمي.
من خلال إثارة حرب تجارية عالمية، يُخاطر الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالتخلّي عن هذه الرؤية للمصالح المشتركة واستبدالها برؤية تفترض أنّ النزاعات الاقتصادية الحادة لا مفرّ منها.
لم يَعُد هناك نداء لهدف أسمى، أو اتفاقات متبادلة، أو قِيَم مشتركة. في هذا النظام الجديد، تُحدّد القوى الكبرى القواعد وتفرضها من خلال الترهيب والقوة الخشنة.
يرى غريغ غراندين، المؤرّخ في جامعة ييل، أنّ «هذه رؤية مختلفة تماماً، لأنّ المبدأ الأول فيها هو أنّ الدول ليس لديها مصالح مشتركة؛ بل لديها تضارب متأصّل في المصالح».
وتقف هذه النظرة وراء قرار ترامب بفرض تعريفات جمركية واسعة النطاق يوم الأربعاء، بما في ذلك ضريبة بنسبة 10% على جميع الواردات تقريباً إلى الولايات المتحدة.
أدّت سياسات ترامب التجارية، بعد أكثر من شهرَين فقط في المنصب، إلى انخفاض حاد في سوق الأسهم، وإلى تراجع ثقة الشركات والمستهلكين. وقد توقّع محلّلو وول ستريت ارتفاع معدّلات التضخّم وتباطؤ النمو في الولايات المتحدة وحول العالم.
لكنّ المكاسب والخسائر الفصلية لا تُعدّ شيئاً مقارنةً بالأضرار المحتملة طويلة الأجل للقوة والامتيازات الفريدة التي بنتها الولايات المتحدة في النظام العالمي بعد الحرب العالمية الثانية. بات تأثير البلاد غير المسبوق على النظام المالي العالمي على المحك، كما المزايا التي تتمتع بها شركاتها، والسمعة التي تجذب المستثمرين والمبتكرين.
يؤكّد أبراهام نيومان، الأستاذ في جامعة جورجتاون، أنّ تراجع ترامب عن التعاون «سيقوّض الأمن الاقتصادي الأميركي على المدى الطويل».
امتيازات وقوة الدولار
خذ في الاعتبار الدور البارز للدولار كعملة احتياطية عالمية، وهي العملة التي تستخدمها كل دولة تقريباً في التجارة اليومية وتحتفظ بها للأوقات العصيبة. نظراً لأنّ التجارة العالمية والمعاملات تتمّ بالدولار، فإنّ الجميع بحاجة إليه. وهذا الطلب يعني أنّ الولايات المتحدة يمكنها دفع فوائد أقل عند بيع سندات الخزانة، ممّا يُقلّل من تكاليف الاقتراض.
بالإضافة إلى ذلك، تتمتع الشركات الأميركية بحماية من تقلّبات أسواق الصرف الأجنبي أو هروب رؤوس الأموال. فعندما تهزّ الاضطرابات وعدم اليَقين الاقتصاد العالمي، يُنظر إلى الدولار على أنّه ملاذ آمن، حتى عندما تكون الولايات المتحدة نفسها مسؤولة عن هذه الاضطرابات.
كما أنّ الهيمنة الأميركية على النظام المالي العالمي مكّنت واشنطن من تشكيل الاقتصاد العالمي وفقاً لمخاوفها الأمنية. فبعد هجمات 11 أيلول 2001، التي كشفت عن كيفية استخدام الإرهابيِّين للنظام المالي العالمي لنقل الأموال عبر الحدود، كانت الولايات المتحدة في موقع يمكنها من تشديد الرقابة.
وسّعت الإدارات الجمهورية والديمقراطية استخدامها للعقوبات والضوابط على الصادرات لتعزيز الهيمنة الأميركية على التمويل العالمي، ثم على التكنولوجيا مثل الذكاء الاصطناعي وأشباه الموصلات. ومكّنتها القوة نفسها من تقييد تصدير معدّات الحوسبة المتقدّمة إلى الصين وتجميد احتياطيات النقد الأجنبي الروسية بعد غزو أوكرانيا.
مع ذلك، في كل مرّة تعلن فيها إدارة ترامب أنّها تريد خفض قيمة الدولار في سوق الصرف الأجنبي أو تُهدّد بالتعريفات والعواقب الأخرى، تتعرّض الثقة بالدولار إلى ضربة، بحسب باري آيكنغرين، مؤلف كتاب «الامتياز الباهظ: صعود وسقوط الدولار ومستقبل النظام النقدي الدولي».
ويُضيف آيكنغرين: «الدولار الضعيف يعني أنّ حامليه الأجانب يخسرون المال. بهذا المعنى، تتضرّر الثقة الكاملة والائتمان في الحكومة الأميركية التي تحاول خفض قيمة التزاماتها الخارجية».
عيوب عقلية الفائز يأخذ كل شيء
ويشرح جوزيف ناي جونيور، الأستاذ في جامعة هارفارد، إنّ الفشل في مراعاة المصالح المشتركة يمكن أن يقوّض الأهداف طويلة الأجل. ويُضيف أنّ عقلية إدارة ترامب تعكس خلفية الرئيس كقطب عقارات في نيويورك ونيوجيرسي، حيث يكون التنمّر شائعاً وكل صفقة تُعقد لمرّة واحدة فقط، وأنّ هذا النهج جعل ترامب يربح الأموال، لكنّه أدى أيضاً إلى اضطراره لإعلان إفلاس ممتلكاته عدة مرات.
ما لا يحققه هذا النهج، كما يقول ناي، هو النمو والصدقية والنفوذ الذي يأتي من كونك شريكاً موثوقاً به على مدى سنوات وعقود.
عندما ناقش مسؤولو البيت الأبيض خططاً لضرب ميليشيات الحوثي في اليمن التي تهاجم السفن في قناة السويس، اشتكوا من «التطفّل الأوروبي» ودرسوا فرض نوع من الدفع «مقابل» التدخّل.
لكنّ إبقاء القناة مفتوحة لم يكن مجرّد خدمة لأوروبا. فذلك يمنع دولاً أخرى وميليشيات وقراصنة من التدخّل في مرور التجارة. فيوضّح ناي: «على المدى الطويل، من مصلحتنا ضمان حرّية الملاحة في البحار وعدم السماح لمجموعة مثل الحوثيِّين بتدميرها».
بالمثل، كان من مصلحة الولايات المتحدة تنظيم خطة إنقاذ بقيمة 50 مليار دولار للمكسيك بعد أزمة مالية ضربتها في عام 1994. كانت واشنطن قلقة من أنّ الاقتصاد المدمّر قد يدفع نصف مليون مكسيكي إلى الهجرة غير الشرعية عبر الحدود.
كما أنّ الحفاظ على تدفّق الدولارات في الأوقات الحرجة هو ما يحافظ على عمل النظام المالي العالمي بسلاسة.
الهيمنة بالقوة بدلاً من التعاون
كان الاعتماد على الإكراه بدلاً من التعاون هو القاعدة بعد الحرب العالمية الأولى. وقد أدّى ذلك في النهاية إلى ظهور النازية في ألمانيا، الإمبريالية اليابانية، وحرب تجارية مدمّرة.
أدّى هذا التاريخ القاتم إلى تبنّي الولايات المتحدة ودول أخرى بعد الحرب العالمية الثانية نهجاً يُركّز على المصالح المشتركة. من خلال تولّي القيادة، قدّمت واشنطن دعماً اقتصادياً هائلاً عبر «خطة مارشال»، لأنّها اعتقدت أنّ أوروبا الأقوى ستكون في مصلحة أميركا على المدى الطويل.
لكنّ ترامب قلبَ النظرية رأساً على عقب. فبدلاً من التركيز على المصالح المشتركة التي تخلقها الروابط الاقتصادية، يسعى إلى استغلال نقاط الضعف التي تولّدها هذه الروابط.
بالفعل، ترامب هو أول رئيس منذ الحرب العالمية الثانية يسعى إلى تحقيق المصالح الأميركية من خلال انتهاك الاتفاقيات الدولية بانتظام، الابتعاد عن الحلفاء، وازدراء أدوات القوة الناعمة مثل المساعدات الاقتصادية والإنسانية.
قد تحقق هذه الاستراتيجية مكاسب فورية. لكن إذا شعرت الدول أنّ النظام العالمي يُهَيمن عليه زعيم متقلّب، فستبحث عن بدائل. بمرور الوقت، قد يؤدّي ذلك إلى خفض مكانة الدولار وتقليل اعتماد الحلفاء على الأسلحة والتكنولوجيا والمنتجات الأميركية، ممّا يُعزّز نفوذ الصين على حساب الولايات المتحدة. ويؤكّد نيومان أنّ ذلك «عكس ما تأمل الولايات المتحدة تحقيقه».







