
بعدما هزَمَ الجيشُ الإسباني الملك الفرنسي فرنسوا الأول في معركة «بافيا» الإيطالية وتمَّ اقتياده أسيراً إلى «مدريد» كتبَ إلى أمّهِ يقول: «سيدتي، لقد ضاعَ كلُّ شيء إلّا الشرف والحياة».
في الحروب: الجيوش تقاتل والملك هو البطل، والجنود يُقتلون كي يعيش الملك، حتّى ولَوْ هُزِمَ الملك ووقَعَ في الأسْرِ ذليلاً مكبّلاً بالأصفاد، فالذلُّ عندهُ شرف.
ما ينطبقُ على الملوك، لا ينطبقُ على الشعوب: الشعوب عندما يضيع عندها كلُّ شيء، فالشرفُ جزءٌ من كل شيء، والأرض المحروقة والمدن المدمّرة جزءٌ من كل شيء، والإبادة الجماعية والقتلُ والتشريد والجوع واستجداء القوت، هو الجزء الأعظم والأعزّ من كل شيء، ومع هذا «الكلّ شيء» فلا سبيل للمفاخرة بالشرف.
الشعوب ضحيّة الملوك، والملوكُ مِن ْبعدِهمِ الطوفان...
«من بعدي الطوفان»: هو قولٌ منسوبٌ إلى عشيقة الملك الفرنسي لويس الخامس عشر، تَرفعُ بهِ معنوياته بعد انهزامه الساحق في حربهِ مع فريدريك ملك بروسيا، حتى أصبحتْ مقولة من بعدي الطوفان مثلاً يوصف به القادة الذين يحقِّقون أغراضهم ولو على جماجم الشعوب.
مع كلّ ما جناهُ «من بعدي الطوفان» في التاريخ الغابر والحاضر، لا يزال هناك مَن يقول: «أنْ لا خيار إلّا بالحرب مهما كانت النتائج» وهذا نوعٌ من الجنون الهتلري الذي دمَّر ألمانيا، حتى قيل: لو لمْ ينتحر هتلر لكان تسبّب بتدمير العالم كلِّه، مع أنّ كلَّ مغامرات «فوهْرر» النازية كانت من أجل عظمة «الفوهرر» نفسه.
القول: بخيار الحرب شيء، والدعوة إلى خيار الحرب مهما كانت النتائج شيء آخر، ومع هذا «الشيء الآخر»، يكفي أن نُلقي نظرةً دامعة على «قطاع غـزّة» حتى لا نسمّي غيره من قطاعات غرقت في بحور الدم ومقابر الجثث الجماعية.
والمدهشُ في الأمر، أنّ هناك مَنْ يؤمنون بسلاح الحرب كأنّه منزَّلٌ مع الوصايا العشر، ومهما كان خطرُهُ عليهم يظلّ آلةً مقدّسة يعبدونها وتستعبدهم كعابدِ النارِ يهواها وتُحْرِقهُ.
قرار الحرب، هو خيارٌ عقلاني وطني داخلي حصريُّ جامع، يتحدّد وفقاً لمصلحة الوطن والشعب، وانطلاقاً من معادلة مدروسة لظروف الحرب وأسبابها والحكم مسبقاً على نتائجها، حتى لا تدفع أمّةٌ بكاملها ثمنَ عملٍ مجنون يقوم به رجلٌ واحد.
يقول نابوليون: إنّ القائد الذي يخوض الحرب مع نسبةٍ لا تفوق الخمسين في المئة من احتمال النجاح، فهذا نوعٌ من الإنتحار.
لأنّنا لم نكن نملك قرار الحرب والسلم وتحديداً منذ 1969، أيْ منذ أنْ قرّرت الفصائل الفلسطينية أنْ تجتاح أرض الجنوب لتشنّ باسمنا الحرب على إسرائيل، «مهما كانت النتائج» فكنّا مُكرَهين على اختيار أهون الشرَّين مخافة الوقوع في الحرب الأهلية، لأنّ فريقاً من اللبنانيّين كان يناصر الفلسطينيّين، فارتضينا اتفاق القاهرة على أنه شرٌ لا بدّ منه، حتى قذفت بنا الأحداث من موقع حرّية الإختيار إلى موقع حريّة الإنتحار.
المشكلة، ليست في اختيار الحرب، بل في قـرار الحرب المفروض لنصرة الخارج، أو استقواء بالخارج على الداخل.
نعم... إنّ الدفاع عن السيادة والأرض والعرض شرفٌ وطني عظيم...
ولكن، عن أرضك أنتَ، وسيادتك أنتَ، وشرفك أنتَ، وحين تقرّره أنتَ، لا حين يقرّره لك الآخرون، هكذا، كمثل الرسائل الصاروخية التي انطلقت من أرضنا منذ أيام، وقد تنصّلت منها مقاومة «حزب الله».
هذا، لا يعني الرضوخ استسلاماً للإحتلال، وللإحتلال الإسرائيلي تحديداً، بل هذا يعني، أنْ يكون لنا وحدنا الخطاب الوطني الواحد في السلم، والسلاح الوطني الواحد في الحرب، لنكون كلّنا جميعاً موَحّدين حول الدولة دفاعاً عن لبنان وشرف لبنان، فإذا انقسم الشرف الوطني اثنين، فلا يشكّل شرَفَينِ صغيرَينِ بل يُشكّل ذلاً كبيراً... وهيهات منّا الذّلة.






.jpg?w=260&h=190&fit=crop)
