

إنهار وقف إطلاق النار الذي استمرّ شهرَين في غزة هذا الأسبوع وسط قصف إسرائيلي متجدّد. ويبدو أنّ القتال يتصاعد مجدّداً ليعود إلى حرب شاملة.
أطلقت «حماس» أول وابل من الصواريخ منذ أشهر باتجاه الأراضي الإسرائيلية أمس، بينما وسّعت القوات الإسرائيلية عملياتها البرية في شمال غزة، في تطوّر يبدو بشكل متزايد وكأنّه انزلاق نحو حرب شاملة.
لم ترد تقارير عن وقوع إصابات جراء الصواريخ التي أُطلقت نحو تل أبيب، وأعلنت القوات العسكرية الإسرائيلية أنّها إمّا اعترضتها أو سقطت في مناطق مفتوحة. ومع ذلك، فقد شكّل هذا الهجوم استعراضاً للصمود من قِبل الجماعة المسلحة الفلسطينية، على رغم من أكثر من عام من الحرب مع إسرائيل.
انهار وقف إطلاق النار الذي دام شهرَين هذا الأسبوع إثر قصف جوي إسرائيلي لغزة، وأعلنت القوات العسكرية أنّ القصف استهدف «حماس». وأكّدت إسرائيل أنّ الهدنة لا يمكن أن تستمر ما لم تُفرِج «حماس» عن المزيد من الرهائن، في حين اتهمتها «حماس» بانتهاك اتفاق وقف إطلاق النار. أسفر الهجوم الإسرائيلي المتجدّد عن مقتل أكثر من 500 شخص في غزة خلال 3 أيام، بينهم عشرات الأطفال، وفقاً لوزارة الصحة في غزة التي لا تُميِّز بين المدنيِّين والمقاتلين.
كما أعلنت القوات العسكرية الإسرائيلية أنّ قوّاتها بدأت تنفيذ «نشاط بري» بالقرب من بيت لاهيا في شمال غزة، بعد أقل من يوم على إعلانها استعادة جزء من ممر نتساريم في وسط غزة، الذي يقسم شمال القطاع عن جنوبه، بعدما كانت قد انسحبت منه كجزء من الهدنة.
وأكّدت «حماس» أنّ ما لا يقلّ عن 5 من كبار قادتها في غزة كانوا من بين نحو 400 شخص قُتلوا الثلاثاء جراء القصف الإسرائيلي المكثف، وفقاً لمسؤولين في غزة. ونادراً ما تُقدِّم «حماس» معلومات حول ما إذا كان القتلى في الهجمات الإسرائيلية من أعضائها المسلّحين أم لا.
وتعهّد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بمواصلة الضغط على «حماس» حتى تستسلم وتُفرج عن عشرات الرهائن الإسرائيليِّين والأجانب الذين لا يزالون محتجزين في غزة. من جانبها، تؤكّد «حماس» أنّ استئناف الحرب لن يمنح إسرائيل شروطاً أكثر تفضيلاً لوقف إطلاق النار.
رفض متبادل
وانتهت المرحلة الأولى من وقف إطلاق النار أوائل آذار. وكان وسطاء، مثل الولايات المتحدة، يحاولون التوسط في اتفاق بين الطرفَين بشأن الخطوات التالية للهدنة، بما في ذلك إنهاء الحرب بشكل دائم والإفراج عن الرهائن الباقين على قَيد الحياة في غزة.
لكنّ إسرائيل لم تُبدِ استعداداً لإنهاء الصراع بشكل دائم طالما أنّ «حماس» لا تزال في السلطة. في المقابل، ترفض «حماس» حَلّ كتائبها المسلّحة أو إرسال قادتها في غزة إلى المنفى أو إطلاق سراح المزيد من الرهائن، إلّا إذا التزمت إسرائيل بإنهاء الحرب بشكل نهائي.
وتُقدِّر الحكومة الإسرائيلية أنّ هناك نحو 24 رهينة إسرائيلية وأجنبية لا يزالون على قَيد الحياة في غزة، بالإضافة إلى جثامين أكثر من 30 آخرين. وكانت «حماس» وحلفاؤها قد اختطفوا نحو 250 شخصاً خلال الهجوم على إسرائيل في 7 تشرين الأول 2023، الذي أشعل فتيل الحرب.
إقالة بار
يُتوقع أن يُقيل نتنياهو، اليوم، رئيس جهاز الشاباك للاستخبارات الداخلية رونين بار، رسمياً، على رغم من تصاعد الاحتجاجات الشعبية والاشتباكات حول هذه الخطوة، ما أدّى إلى تفاقم الانقسام العميق داخل البلاد التي لا تزال في حالة حرب. وكان من المقرّر أن يعقد مجلس الوزراء الإسرائيلي اجتماعاً ليلياً للتصويت على إقالة بار، بعد أيام فقط من إعلان نتنياهو عزمه على إقالته، مشيراً إلى فقدان الثقة الشخصية بينهما.
ويلعب جهاز الشاباك دوراً رئيساً في الحرب الإسرائيلية ضدّ «حماس» في غزة، إذ يُزوِّد الجيش بالمعلومات الاستخباراتية والأهداف العسكرية. كما أنّه، بموجب القانون، مسؤول عن حماية الديموقراطية الإسرائيلية.
الخلاف بين نتنياهو وبار يعكس معركة أوسع نطاقاً حول طبيعة ومستقبل الديموقراطية الإسرائيلية وسيادة القانون. ويتهم منتقدو حكومة نتنياهو، التي تُعدّ الأكثر يمينية وتطرّفاً دينياً في تاريخ إسرائيل، بأنّها تسعى إلى تقليص سلطة الهيئات الرقابية المستقلة للدولة وإضعاف الضوابط والتوازنات على صلاحيات الحكومة، التي تحظى بأغلبية ضئيلة في البرلمان.
كما أنّ إقالة بار على أساس «الثقة الشخصية» أثارت مخاوف عامة من أنّ التعيينات المستقبلية قد تعتمد بشكل أساسي على الولاء الشخصي لرئيس الوزراء.
الأربعاء، تظاهر الآلاف في القدس استباقاً للقرار، واستمرّت الاحتجاجات أمس. وبحلول وقت الغداء، سار عدد كبير من الأكاديميِّين تحت المطر الغزير من إحدى كليات الجامعة العبرية في القدس باتجاه أحد المساكن الخاصة لنتنياهو، وهم يقرعون الطبول ويُردِّدون هتافات مثل «ديموقراطية!»، قبل أن يشتبكوا مع ضباط الشرطة أثناء محاولتهم اختراق الحواجز الأمنية.
وانضمّت بعض الشخصيات البارزة في المعارضة إلى المتظاهرين. وأظهرت لقطات مصوّرة رجال الشرطة يَدفعون المحتجّين بقوة، ومن بينهم يائير غولان، نائب رئيس الأركان السابق والزعيم الحالي لحزب «الديموقراطيّون» المنتمي إلى يسار الوسط، الذي سقط على الأرض أثناء المواجهة. كما استخدمت الشرطة مدفع مياه ورشت المتظاهرين بسائل كريه الرائحة لتفريقهم.
تعيد هذه الاحتجاجات إلى الأذهان التظاهرات الأسبوعية التي قامت عام 2023 ضدّ محاولات تعديل النظام القضائي لتقليص سلطته في الرقابة على الحكومة. آنذاك، انضمّ قادة الأعمال إلى النقابات العمالية لتنظيم إضراب وطني. لكنّ تلك الاحتجاجات توقفت فجأةً عقب هجوم 7 أكتوبر. ومع ذلك، فإنّ الشعور بالتضامن الوطني الذي ساد آنذاك بدأ الآن في التلاشي. ويواصل نتنياهو وحلفاؤه اتهام القضاء والمؤسسات المستقلة الأخرى بالتجاوز، مدّعين أنّها تُعرقِل قدرة الحكومة على اتخاذ القرارات وتنفيذ إرادة الناخبين. ويخضع نتنياهو إلى تحقيقات الشرطة، ويواجه محاكمة في قضايا فساد، وهي تُهَم ينفيها بشدة. وقد اتَهَم مراراً «الدولة العميقة الليبرالية» بشنّ حملة اضطهاد ضدّه وضدّ عائلته.
وأثار بار غضب نتنياهو على مدار الأشهر الماضية من خلال التحقيق مع مسؤولين في مكتب رئيس الوزراء بشأن مزاعم تتعلق بتسريب وثائق سرّية إلى وسائل الإعلام، بالإضافة إلى الاشتباه في تعاونهم مع شخصيات لها صلات بقطر، الدولة العربية القريبة من «حماس». ويُعرَف التحقيق باسم «قطر غايت» في وسائل الإعلام المحلية، ولا يزال مستمراً في سرّية تامة بموجب أمر حظر نشر شامل.
ونفى نتنياهو ارتكاب أي مخالفات، ووصف مكتبه القضية بأنّها «أخبار زائفة». ولم تردّ الحكومة القطرية على طلبات التعليق. أمّا بار، الذي يشغل منصب رئيس الشاباك منذ عام 2021، فقد أصدر بياناً عاماً نادراً الأسبوع الماضي بعد إعلان نتنياهو، معتبراً أنّ توقُّع «الثقة الشخصية» يتعارض مع المصلحة العامة. وأضاف: «إنّه توقُّع مُعيب جوهرياً ويتناقض مع قانون الشاباك ومبدأ الحُكم الرشيد».
وتحمّل بار وجهاز الشاباك المسؤولية عن الإخفاقات الاستخباراتية التي أدّت إلى هجوم «حماس»، الذي أسفر عن أسوأ يوم دمَوي في تاريخ إسرائيل منذ تأسيسها عام 1948.
لكن في تقرير تلخيصي لتحقيق داخلي أجراه الجهاز في وقت سابق في آذار، أشار الشاباك أيضاً إلى أنّ سياسة الحكومة المتساهلة مع «حماس» وغزة على مدار السنوات الماضية كانت عاملاً رئيساً مساهماً في ذلك، وهو أمر يُرجّح أن يكون قد أثار غضب نتنياهو.
وبدا نتنياهو، الذي يشعر بالقوة داخلياً وفي غزة بفضل الدعم الثابت من الإدارة الأميركية، أكثر جرأة، إذ تبنّى خطاباً مشابهاً للرئيس الأميركي دونالد ترامب في منشور صريح على وسائل التواصل الاجتماعي مساء الأربعاء.
وكتب نتنياهو: «في أميركا وإسرائيل، عندما يفوز زعيم يميني قوي في الانتخابات، تُسلِّح الدولة العميقة اليسارية النظام القضائي لإحباط إرادة الشعب. لكنّهم لن ينتصروا في أي من البلدَين! نحن نقف معاً بقوة».
وردّ الملياردير إيلون ماسك، الحليف المقرّب من ترامب، برمز تعبيري أحمر «100»، في إشارة إلى تأييده لنتنياهو.
ويرى العديد من الإسرائيليين أنّ ديموقراطية بلادهم أصبحت هشة بشكل متزايد. فإسرائيل لا تملك دستوراً مكتوباً بشكل رسمي، ولديها هيئة تشريعية واحدة فقط، ورئيس يتمتع بدور رمزي إلى حدّ كبير.
من خلال طرح التصويت مباشرة في الحكومة، يتحدّى نتنياهو أيضاً الرأي القانوني للمستشارة القضائية للحكومة، غالي بهاراف-ميارا، التي نصحت بضرورة الحصول أولاً على موافقة لجنة استشارية تُشرف على التعيينات العليا قبل إقالة بار.
وعُيِّنت بهاراف-ميارا من قِبل الحكومة السابقة، وكانت في صدام متكرّر مع الحكومة الحالية. وصرّح أعضاء بارزون في حكومة نتنياهو بأنّ المستشارة القضائية ستكون التالية بعد إقالة بار. وأعربت عائلات الرهائن المحتجزين في غزة، الذين يُعتقد أنّ ما يصل إلى 24 منهم لا يزالون على قيد الحياة، عن غضبها وقلقها الشديدَين بشأن ما تعتبره أولويات خاطئة من جانب نتنياهو، خصوصاً مع انهيار وقف إطلاق النار الموقت واستئناف الحملة العسكرية.





.jpg?w=260&h=190&fit=crop)


