





للوهلة الأولى، يمكننا أن نستغرب هذا التصريح نظراً لأنّ من المعلوم أنّ المراسيم هي أعمال إدارية تصدر عن السلطة التنفيذية وتخضع في لبنان، كما في فرنسا، لرقابة القضاء الإداري، أي لمجلس شورى الدولة وليس للمجلس الدستوري. إلّا أنّ الإشكالية تكمن في النصوص المتعلقة بصلاحية المجلس الدستوري. فالمادة 18 من قانون إنشاء هذا المجلس (القانون الرقم 250، الصادر في 14/7/1993) تنص على أنّ المجلس الدستوري يتولّى «الرقابة على دستورية القوانين وسائر النصوص التي لها قوة القانون». فهل مرسوم الموازنة الذي تشير إليه المادة 86 من الدستور يُعتبر من النصوص التي لها قوة القانون؟ وفي حال كان الجواب إيجابياً، هل المجلس الدستوري هو الهيئة الصالحة للرقابة على هذا المرسوم؟
إنّ «النصوص التي لها قوة القانون» تعني أساساً المراسيم الصادرة عن السلطة التنفيذية، والتي يكون لها قوة القانون لكونها تستطيع أن تُعدّل أو تُلغي القوانين النافذة، من دون أن يكون لها قيمة ومرتبة القانون الصادر عن مجلس النواب نظراً لصدورها عن السلطة التنفيذية.
انطلاقاً من هذا التعريف يمكن القول إنّ المرسوم المتعلق بالموازنة يدخل ضمن إطار النصوص التي لها قوة القانون. فالمادة 86 من الدستور تعطي مجلس الوزراء، تجنّباً لشلل المرافق والمؤسسات العامة، حَق إصدار الموازنة بمرسوم في حال لم يتمكن مجلس النواب من البَتّ في شأن مشروع الموازنة. إلّا أنّ الحفاظ على الصلاحيات التشريعية لمجلس النواب، يُفسّر الشروط القاسية التي تضعها هذه المادة على ممارسة هذا الحق.
فالمادة 86 تضع ثلاثة شروط على حق إصدار الموازنة بمرسوم:
1 - عدم بَتّ مجلس النواب نهائياً في شأن مشروع الموازنة قبل الانتهاء من العقد المعيّن لدرسه؛
2 - الاستمرار في عدم البتّ بالمشروع في العقد الاستثنائي الذي يدعو إليه رئيس الجمهورية للغاية نفسها؛
3 - «لا يجوز لمجلس الوزراء أن يستعمل هذا الحق إلّا إذا كان مشروع الموازنة قد طُرح على المجلس قبل بداية عقده بـ15 يوماً على الأقل».
بغضّ النظر عن احترام أو عدم احترام الحكومة لهذه الشروط، فإنّ من الصعب القول إنّ المجلس الدستوري هو الهيئة الصالحة لمراقبة دستورية مرسوم الموازنة. فالنصوص القانونية التي تتعلّق بصلاحيات المجلس الدستوري تتميّز، بالتناقض والتضارب.
فبينما تنص المادة 19 من الدستور على نشوء «مجلس دستوري لمراقبة القوانين والبتّ في النزاعات والطعون الناشئة عن الانتخابات الرئاسية والنيابية»، تشير المادة 18 من قانون إنشاء المجلس، الآنف الذكر، على أنّ هذا المجلس يتولّى «الرقابة على دستورية القوانين وسائر النصوص التي لها قوة القانون».
إنّ تحديد مفهوم «القوانين» التي تشير إليها المادة 18 لا يُشكّل أي صعوبة. فهذه القوانين هي القوانين «العادية» التي يُصوّت عليها مجلس النواب عملاً بأحكام الدستور التي ترعى الإجراءات التشريعية العادية. أمّا مفهوم «النصوص التي لها قوة القانون» فيتعلّق بنصوص صادرة عن السلطة التنفيذية، إمّا لسبب عدم تمكّن السلطة التشريعية من القيام بمهمّاتها، كحالة مرسوم الموازنة، أو بناءً على تفويض مسبق من مجلس النواب كالمراسيم الاشتراعية. وهذه النصوص تبقى، كما أكّد ذلك الاجتهاد اللبناني والفرنسي، أعمالاً صادرة عن السلطة التنفيذية وخاضعة بالتالي، إلى مراقبة مجلس الشورى القضائية ما دامت غير مقترنة بمصادقة مجلس النواب، في اعتبار أنّه في حال المصادقة عليها فقط تصبح في منأى عن هذه الرقابة، إذ تتحوّل عندها قوانين صادرة عن السلطة التشريعية نفسها، بالتالي تخضع إلى رقابة المجلس الدستوري.
فالمادة 18 من قانون إنشاء المجلس الدستوري تخالف صراحة المادة 19 من الدستور بنصها على أنّ صلاحيات المجلس تشمل أيضاً «النصوص التي لها قوة القانون». ولا نعتقد أنّ المجلس الدستوري يستطيع أن يأخذ في الحسبان هذه المادة في حال الطعن بمرسوم الموازنة. فالمجلس غير ملزَم إلّا بتطبيق النصوص والمبادئ الدستورية. فهل من المعقول أن يُحدّد الخاضع إلى الرقابة (القانون العادي) صلاحية المراقب أي المجلس الدستوري؟ بالإضافة إلى ذلك، إنّ المجلس الدستوري لا يتمتع إلّا بصلاحيات حصرية (compétences d’attribution) حدّدها الدستور ولا يمكن تعديلها إلّا بتعديل الدستور. ففي قراره الصادر في 6 تشرين الثاني 1962 رفض المجلس الدستوري الفرنسي مراقبة القانون الذي صوّت عليه الشعب مباشرة عن طريق الاستفتاء، بحجة أنّ الدستور لا يُخوّله إلّا مراقبة القوانين التي صُوِّت عليها في مجلس النواب.
في حال أعلن المجلس الدستوري عدم صلاحيته، هل يمكن القول إنّ صلاحية مجلس شورى الدولة تصبح عندئذٍ بديهية؟ ليس تماماً، لأنّ الفقرة الثانية من المادة 18 من قانون إنشاء المجلس الدستوري تنص على أنّه «لا يجوز لأي مرجع قضائي» أن يُراقب النصوص التي كُلِّفَ بها المجلس الدستوري «مباشرة عن طريق الطعن أو بصورة غير مباشرة عن طريق الدفع بمخالفة الدستور».
بمعنى آخر، إنّ مجلس الشورى لم يَعُد صالحاً، بالنسبة إلى قانون إنشاء المجلس الدستوري الصادر عام 1993، لمراقبة النصوص التي لها قوة القانون، ومنها مرسوم الموازنة، وبالتالي أصبحنا أمام حالة «عدم إحقاق الحق».
إلّا أنّ نيّة المُشرِّع لعام 1993 تصطدم، بحسب رأينا، بالاجتهاد الإداري، الذي يعتبر منذ عقود أنّ مراجعة الإبطال لتجاوز حدّ السلطة، تُعتبر مبدأ عاماً من مبادئ القانون principe général du droit. بمعنى أنّه لا يمكن استبعاد هذا النوع من المراجعة إلّا بموجب قانون ينص صراحة وخصوصاً على استبعاد «مراجعة الإبطال لتجاوز حدّ السلطة»: مجلس شورى الدولة الرقم 75 تاريخ 20/10/2003 CE 17 février 1950, dame Lamotte, GAJA, n° 58 وهذا ما لا توفّره الفقرة الثانية من المادة 18 من القانون المذكور.








