

وكيف يمكنك أن تسلخ منصور عن عاصي؟ وكأنّهما كانا غصنَين من جذع شجرة واحدة. يوم دُفن عاصي اتكأ منصور على كتفَي صديقنا هنري زغيب، وهمس في أذنه، «الآن تدفنون مع عاصي نصف منصور». ويوم مات منصور طلبت من صديق لي أن يحمل إكليلاً من الزهر إلى ضريحه، ويقول له إنّ قسماً مني سيبقى إلى جانبه.
لم أعد أذكر كيف وأين التقينا للمرّة الأولى. كل ما أذكره أنّنا التقَينا بعد المرّة الأولى ألف مرّة. ذكريات وحكايات تتمدّد من أنطلياس إلى بيروت إلى أوتيل القادري في زحلة، إلى مدارج بعلبك. وإن نسيت، فلن أنسى أنّ في يوم من الأيام ونحن ذاهبون لحضور إحدى المسرحيات الرحبانية في بعلبك، تأخّرنا على الطريق. وإذ بصوت منصور يهدر في هاتفي «وين صرتوا؟»، قلتُ: «بعد بدنا عشر دقايق»، «عجّلوا صار وَقت نبلّش، بس مش لَح بلّش تتوصلوا». صداقة عُمر. عُمر من المحبة والأخوّة والفرح. عُمر من الكلام. عُمر من الصمت الذي يتكلم أجمل الكلام.
وماذا يجمع بين فنان مبدع مثل منصور وطبيب مثلي يعيش مع آلام الناس؟ أشياء كثيرة جمعتنا. نعرف بعضها، ونجهل البعض الآخر. جمعنا حُبّنا للبنان. وجمعنا حُبّنا للضيعة في لبنان. أنا ومنصور «ولاد ضيعة»، ولدنا وربينا في بيوت عتيقة مبنية من حجر. نحن عندنا «صداقة مع القمر». كَم سهرنا على «سطح الجيران» بضوئه، وكَم عملنا مشاوير بالليل على «دربه». نحن نعرف «دقّة» جرس الكنيسة ومعناها. نحن عشنا في طفولتنا مع القنديل، وكَم سقيناه من زَيته. نحن نعرف رائحة الأرض عند «الشتوة» الأولى. أنا فخور بأنّني وُلِدتُ وعِشتُ في ضيعة من لبنان؛ وكم ردّدتُ في كلامي إنّ مَن لم يعش في ضيعة لم يعرف حقيقة لبنان.
وجمعنا حُبّنا، بل عشقنا للبنان. وظننّا أنّه ليس هناك من وطن في الأرض يستحق العشق، كما يستحقه لبنان. لم يكن لبناننا لبنان الكيان السياسي المعترف به في نصوص الأمم المتحدة، بمقدار ما كان لبناننا الكيان الحضاري المعترف به لدى شعوب العالم كله. لبنان الحضارة المميّزة في الشرق. لبنان الرسالة إلى العالم. هنا في هذه البقعة الصغيرة من الأرض تعانق المسيحية الإسلام. وهنا في هذه الأرض تعانق حضارة الشرق حضارة الغرب وحضارات العالم كله. وحده من كل بلدان هذا الشرق تعيش فيه التعددية الحضارية وتحيا. وحده في هذا الشرق يحمل الرسالة. الرسالة التي تقول: إنّ الله واحد؛ وإنّ الإنسان واحد.
في حفلٍ لتكريمي في اليونيسكو في نيسان 2002، قال منصور: «لا البيارق ولا الجيوش ولا ترسانات الأسلحة التي تكدّسها أنظمة الشرق تضعنا في الانتصار. وحدها سبل العلم والاكتشافات والفنون تنقلنا من بلد صغير يستعطي على أبواب الأمم إلى وطن رؤيوي يساهم في صنع مصير الإنسان».
منصور الرحباني. هذا الصديق والحبيب. هذا الذي رفع كل واحد منا إلى فوق. هذا الذي ملأ سماء هذا الشرق بالفرح، مات وفي قلبه حزن كبير. حزن على لبنان، وخوف على الرسالة.








