ليس المطلوب تشكيل حكومة وحدة وطنية تكون برلماناً مصغّراً ينبثق من المجلس النيابي، فتنتقل نزاعات الكتل اليها، وتعمّها التجاذبات على إيقاع مصالح هذه الكتل وتسابقها على الوزارات «الدسمة»، إذا أردنا الخروج من منطق الحقائب: «السيادية»، «الخدماتية» و»الثانوية». لكن المطلوب بالطبع حكومة تتمتع بتمثيل واسع ووازن، لتستطيع نيل ثقة كبيرة تمكنها من الانطلاق بقوة لتنفيذ ورشة عمل إصلاحية كبرى يحتاجها لبنان في كل المجالات. وهذا ما يعمل رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون ورئيس الحكومة المكلّف الدكتور نواف سلام على تظهيره خلال الـ48 ساعة المقبلة، أو قبل هذه الفترة بحسب سير الاتصالات المكثفة الجارية.
وسيحاول كلٌ من رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة المكلّف اختيار شخصيات من ذوي الاختصاص، معروفة بقربها من الكتل النيابية على اختلاف هويتها الحزبية، من دون أن تكون مندمجة بهذه الأحزاب، بمعنى ألّا يكون الوزير ممثلاً للحزب او التيار الذي سمّاه في وزارته، بل يكون مشاركاً في صوغ القرارات السياسية وبرامجها، على أن يكون أداؤه في خدمة كل لبنان وكل اللبنانيين وليس لفئة منهم. هذا هو الامتحان الذي ينتظر الحكومة العتيدة، لذا يتوقع المواطنون أن يشكّل تأليفها صدمة إيجابية.
وثمة أمرٌ في غاية الأهمية يسير في موازاة ولادة الحكومة، هو طريقة التعاطي مع عناوين أساسية تتصل بمستقبل لبنان وردت بصورة مباشرة أو غير مباشرة في خطاب القَسَم، وهل أنّ الحكومة هي من تتصدّى لها؟ هناك من يرى أنّ على الحكومة اللبنانية أن تقوم بمسؤولياتها كاملة، خصوصاً لجهة العمل على إقرار إستقلالية القضاء، وتحقيق الإصلاح الاداري، مواكبة عملية إعادة الإعمار والإشراف عليها، حلّ قضية الودائع بإيجاد الوسائل الناجعة لإعادتها إلى أصحابها من خلال آلية تحفظ الحقوق وتوفرها ولا تقضي على القطاع المصرفي، ضبط الهدر في الصناديق والمجالس التي تعمل بهامش واسع من الحرّية التي تبلغ حدود الإستنسابية، وما بعد بعد الإستنسابية، وإيلاء الشق الاجتماعي والصحي الاهتمام الذي يُشعر الناس بأنّهم في دولة رعاية، لا جباية فحسب. أما في ما يتعلق بعناوين كبرى أوردها رئيس الجمهورية في خطاب القَسَم، فإنّ ثمة ملفات خلافية بين الأفرقاء، وتتفاوت النظرة إليها بين طرف وطرف، وهي كانت دائماً ولّادة للمشكلات والانقسامات، وإنّ الاتفاق عليها يبني قاعدة استقرار متينة ودائمة، أو على الاقل، طويلة الأمد. من هذه الملفات:
أ- الاتفاق على استراتيجية دفاعية. وصوغ مفهوم موحّد للأمن القومي أو الوطني، لأنّ انتفاء وجود مثل هذا المفهوم، هو وراء ما يشهده لبنان من خلافات مدمّرة أحياناً.
ب- موضوع الحياد الإيجابي: تحديده، الهدف منه، أبعاده، دراسة جدواه، وخريطة الوصول إليه.
ج- إستكمال تنفيذ ما لم يُنفّذ من «إتفاق الطائف» ليكتمل البناء الدستوري للدولة، المستوحى من وثيقة الوفاق الوطني. وفي ضوء ما يخلص إليه هذا الإجراء يُبحث في تعديلات ممكنة مطلوبة من أجل تحصين «الطائف» وتحريره من الشوائب التي تعتوره.
هذه العناوين المفتاحية الكبرى ستكون أكبر من طاقة حكومة بمفردها، تنتظرها ورشة مرهقة لإعادة بناء الدولة بعملية قيصرية مضنية، الأمر الذي قد يدعو رئيس الجمهورية إلى عقد مؤتمر وطني جامع يضمّ القوى الممثلة في الحكومة وغير الممثلة، والقيادات الروحية ووجوهاً من المجتمع المدني والباحثين الدستوريين والقانونيين والاجتماعيين والسياسيين، من أجل البتّ في الملفات التي لا بدّ من أن تشكّل الرافعة الأساس لدولة الغد التي يطمح إليها أبناؤها. وذلك بمواكبة من المجلس النيابي والحكومة بالطبع، لأنّ عليهما ترجمة ما يُتفق عليه عملياً من خلال إصدار القوانين والمراسيم اللازمة. وإنّ الأمن القومي والسياسة الخارجية طالما كانا سبباً رئيساً للاهتزازات الدائمة في لبنان، خصوصاً عندما تتسلّل الخلافات إلى هذه الدولة المعقّدة التركيب وتتغلغل في مفاصل حياتها السياسية مخلّفة الانقسامات والتوترات.