خبيرٌ استراتيجي في الإصلاح الإداري والاقتصاد
هل يحتاج العالم إلى دولة فاشلة أخرى في الشرق الأوسط؟ هذا هو السؤال الذي يجب أن يطرحه صُنّاع القرار، سواء في الداخل اللبناني أو في العواصم العالمية التي لطالما تعاملت مع لبنان كملف مؤجّل، وليس كدولة على وشك الانفجار.
منذ سنوات، تتعامل القوى الكبرى مع لبنان كمريض في غرفة الإنعاش، تضخّ إليه بعض المسكنات المالية أو الديبلوماسية كلّما أوشك على الموت، لكن لا أحد يجرؤ على اقتلاع الورم السرطاني الذي ينهش جسده: نظام سياسي طائفي يرفض أن يموت، وطبقة سياسية فاسدة ترفض أن ترحل.
انتخب لبنان رئيساً جديداً، جوزاف عون، وكُلّف نواف سلام بتشكيل حكومة. في أي بلد آخر، كانت هذه الخطوات ستُعتبر بداية لمرحلة جديدة، لكن في لبنان، الأمر مجرّد إعادة تدوير للفشل. الدولة لا تزال مختطفة من قِبَل أمراء الطوائف، الحكومة لن تتشكّل إلّا وفق توازنات مهترئة، والإصلاحات ستظل مجرّد حبر على ورق لأنّ المنظومة الحاكمة لا تؤمن بالإصلاح، بل تُتقِن فن إدارته كأزمة دائمة.
لكنّ السؤال الحقيقي ليس لماذا يفشل لبنان في تشكيل حكومات وإجراء إصلاحات، بل لماذا يصرّ العالم على إبقاء هذا النموذج المشوّه على قيد الحياة؟ لماذا تُغرق الدول الغربية والمانحون والمؤسسات الدولية هذا البلد بالمساعدات المشروطة، وهم يعلمون أنّ هذه الأموال لن تذهب إلّا إلى حسابات زعمائه في الخارج؟ لماذا يُفرض الاستقرار الوهمي على لبنان، بينما كل الظروف تُشير إلى أنّ الانفجار قادم؟
ربما لأنّ لبنان ليس مجرّد بلد صغير يعاني من أزمة اقتصادية وسياسية، بل ساحة صراع إقليمي ودولي لا أحد يُريد خسارتها بالكامل. من طهران إلى واشنطن، ومن باريس إلى الرياض، الجميع يدرك أنّ أي تغيير حقيقي في لبنان سيؤدّي إلى انهيار توازنات رُسمت على مدى عقود. المشكلة ليست فقط في النُخَب السياسية المحلية، بل في الجهات الخارجية التي تُبقي هذه النخب في السلطة، ثم تتظاهر بالقلق على مستقبل البلاد.
لكنّ الحقيقة التي يتجاهلها الجميع هي أنّ هذا النموذج لم يعد قابلاً للحياة، لا محلياً ولا دولياً. الدول الخليجية التي دعمت لبنان لعقود لم تَعُد تثق في طبقته السياسية، والدول الغربية التي ضغطت من أجل الإصلاح لم تحصد إلّا مزيداً من الفساد والانهيار، والمنظمات الدولية التي ضخّت المساعدات وجدت نفسها شريكة غير مباشرة في تمويل ماكينة الفساد التي دمّرت البلاد.
أمام هذه الحقيقة، الرئيس الجديد ورئيس الحكومة المكلّف أمام خيارَين: إمّا أن يكونا امتداداً لِمَن سبقوهما، ويتقنان فن تدوير الأزمات، أو أن يكسرا القواعد تماماً. العالم لم يَعُد يملك رفاهية الانتظار، والمطلوب اليوم ليس مجرّد تشكيل حكومة جديدة، بل إعلان قطيعة كاملة مع الماضي. حكومة تكنوقراط؟ حكومة وفاق؟ لا يهمّ، طالما أنّ اللعبة تُلعب بالأدوات عينها والقواعد عينها. المطلوب هو إعلان حالة طوارئ سياسية واقتصادية حقيقية، فيتمّ إسقاط معادلة المحاصصة، وإعادة بناء الدولة وفق معيار واحد: الكفاءة والقدرة، وليس الولاء والطائفة.
هل لبنان جاهز لهذه القفزة؟ بالتأكيد لا، لكنّه لم يكن يوماً جاهزاً لأي تغيير جذري، وعلى رغم من ذلك، كانت التحوّلات الكبرى تحدث عندما يقرّر طرف ما قلب الطاولة. اليوم، الفرصة قائمة أمام جوزاف عون ونواف سلام ليكونا مَن يقلبان الطاولة، لا أن يُستخدم اسماهما في جولات تفاوض عقيمة بين زعماء الطوائف. وإذا لم يفعلا ذلك، فلا فرق بينهما وبين كل من سبقهما في قصر بعبدا والسراي الكبير.
أمّا القوى الخارجية التي لا تزال ترى في لبنان مجرد ورقة تفاوض في صراعاتها، فعليها أن تدرك أنّ هذا البلد لم يَعُد رهاناً آمناً. لا إيران قادرة على تحويله إلى قاعدة متقدّمة من دون ثمن، ولا الغرب قادر على فرض استقرار زائف إلى الأبد. لبنان إمّا أن يُعاد تشكيله الآن، وإلّا فسيدخل مرحلة جديدة من الفوضى، لن يكون لأحد القدرة على التحكّم بمسارها أو تداعياتها.
إذا كان العالم يُريد لبنان مستقراً، فعليه أن يتوقف عن دعمه كـ»حالة ميؤوس منها» ويبدأ في التعامل معه كدولة تحتاج إلى إعادة بناء حقيقية. وإذا كانت القيادة اللبنانية تريد إنقاذ نفسها قبل أن ينفجر الشارع من جديد، فعليها أن تدرك أنّ الوقت قد نفد، وأنّ القواعد القديمة لم تَعُد تصلح لعالم يتغيّر بسرعة، ولا لبلد يحتضر على يَد أبنائه.