ترك الصراع بين إسرائيل و»حزب الله» خلفه الكثير من الأنقاض. ويخشى بعض الخبراء أن يتمّ التخلّص من الكثير منها في البيئة من دون رقابة.
على مدار الأشهر الثلاثة الماضية، عاش أحمد مهدي في نصف منزل. ففي تشرين الأول، أدّت غارة جوية إسرائيلية على المبنى المجاور لمنزله في أحد أحياء جنوب بيروت إلى تدمير معظم مطبخه وغرفة معيشته في شقته بالطابق الخامس.
عندما ينظر إلى ما تبقّى من المبنى المجاور، يشعر بمدى ضخامة الدمار، فأكّد: «انهار 11 طابقاً وبقي طابقان فقط. كل ما تراه هو صخور وتراب وحديد وقطع من الفولاذ».
مثل العديد من اللبنانيّين الذين تضرّرت منازلهم وأعمالهم خلال أكثر من عام من الحرب بين إسرائيل و»حزب الله»، يتوق مهدي (20 عاماً) وعائلته إلى بدء الإصلاحات، لكنّ «مشكلتنا الأكبر هي: أين نضع الحطام؟».
مع بدء لبنان عملية إعادة الإعمار البطيئة بعد وقف إطلاق النار الهَش بين «حزب الله»، الجماعة المسلّحة اللبنانية المدعومة من إيران، وإسرائيل، يعاني لبنان من إيجاد طريقة للتخلّص من الكميات الهائلة من الحطام المتناثرة حول بيروت، العاصمة.
وفقاً لتقرير صادر عن المجلس الوطني للبحوث العلمية في لبنان، أظهرت التقديرات الأولية أنّ حوالى 3000 مبنى في منطقة الضاحية جنوب المدينة قد دُمِّر أو تعرّض إلى أضرار جسيمة.
خلال الحرب، التي بدأت بعد أن أطلق «حزب الله» نيراناً على مواقع إسرائيلية، عقب هجمات قادتها «حماس» على إسرائيل في 7 تشرين الأول 2023، قُتل أكثر من 3700 شخص في لبنان. وأدّى الصراع إلى نزوح حوالى 1,3 مليون شخص في لبنان، وتسبّب في خسائر اقتصادية تُقدَّر بمليارات الدولارات ودُمِّرت أجزاء كبيرة من جنوب لبنان قرب الحدود مع إسرائيل، بالإضافة إلى المناطق المكتظة بالسكان جنوب بيروت التي يُسَيطر عليها «حزب الله».
صرّحت تمارا الزين، وهي مؤلفة التقرير، أنّ التقييمات الأولية أظهرت أنّ الهجمات الإسرائيلية على المباني، المنازل، المصانع، الطرق والبنية التحتية الأخرى في جميع أنحاء البلاد خلّفت حوالى 350 مليون قدم مكعّب من الحطام. وأكّدت أنّ إعادة الإعمار الكبيرة لا يمكن أن تبدأ حتى يُنظّف كل هذا.
في غزة، حيث تخوض إسرائيل حرباً ضدّ مسلّحي «حماس»، تعرّضت نحو 60% من المباني إلى أضرار أو دُمِّرت في القطاع المحاصر. كما دمَّرت أو أضرّت هجمات «حزب الله» الصاروخية في إسرائيل المنازل في المجتمعات الحدودية وتسبّبت في حرائق في الأراضي الزراعية.
ذكر عصام سرور، أستاذ الهندسة المدنية والبيئية في الجامعة الأميركية في بيروت، أنّ المكبّات في لبنان تعاني بالفعل من التعامل مع نفايات البناء التي غالباً ما تكون خطرة. وأوضح أنّ الكثير منها يُلقى في البيئة.
في عام 2006، بعد الحرب الأخيرة بين «حزب الله» وإسرائيل، أُلقيَ الحُطام من المناطق التي تعرّضت إلى القصف الشديد جنوب بيروت، بما في ذلك الذخائر غير المنفجرة، الأسبستوس، المفروشات الصناعية، الأجهزة الإلكترونية المحطّمة والنفايات العضوية، على طول الشاطئ قرب المطار. وأكّد خبراء بيئيّون أنّ المنطقة تطوّرت لتصبح مكبّاً دائماً من دون وجود حواجز كافية لحماية البيئة البحرية من المواد الكيميائية السامة المتسرّبة من الحطام. وأصبحت هذه المنطقة، المعروفة باسم «كوستا برافا»، مرادفاً لكارثة بيئية في لبنان. بالتالي، يؤكّد سرور أنّ تأثير الصراع الأخير قد يكون أكبر وأكثر ضرراً.
على مدار العقد الماضي، شهد لبنان زيادة هائلة في استخدام الألواح الشمسية وتخزين البطاريات لتعويض تدهور شبكة الكهرباء في البلاد. ويمكن أن يتسبّب التخلّص غير السليم من هذه الألواح والبطاريات في تسرّب الرصاص، الزئبق وعناصر خطرة أخرى إلى البيئة.
وأوضح سرور أنّ «مستوى المخاطر في الحطام الحالي أسوأ بكثير ممّا رأيناه في 2006. لا يمكننا تحمّل إهمال البصمة البيئية للحطام كما فعلنا في المرّة الماضية. الأمر بسيط: لن نرى عواقب سوء الإدارة الآن، لكنّنا بالتأكيد سنراها لاحقاً».
ويُقدِّر المجلس الوطني للبحوث العلمية أنّ هناك حوالى 4000 لوح شمسي تعرّض إلى أضرار جسيمة في الضاحية وحدها. وإذا سُحِقت وحُوِّلت إلى غبار سام وتسرّبت منها المواد الكيميائية الخطرة، قد تشكّل خطراً كبيراً إذا لم تُعالج بشكل كافٍ قبل التخلّص منها.
عندما ينظر مهدي، وهو طالب هندسة في الجامعة الأميركية في بيروت، إلى أنقاض حيّه من شرفة منزله المتبقية، يُدرك المخاطر الكامنة تحت القضبان الفولاذية والخرسانة المتكسرة، لكنّه يرى أيضاً الإمكانيات.
ويشرح مهدي: «إذا نُظِّف الحطام وفرزه، يمكن إعادة تدويره ليصبح مواد بناء للبنية التحتية الجديدة التي نحتاجها بشدة بدلاً من البدء من الصفر باستخراج الرمل والحجر لإنتاج الخرسانة. أنظر إلى الجانب الإيجابي من كل هذا. الحرب كانت مأساة للبنان، لكن هناك الكثير من الفرص في كل هذا الحطام».
لكن بالنظر إلى الحاجة الملحّة لإعادة البناء والوقت الذي قد يستغرقه فرز الحطام للعثور على مواد قابلة لإعادة الاستخدام، يُخشى أن يتمّ التخلّص منه بدلاً من ذلك. وكشف مسؤولون حكوميّون أنّهم يفكّرون في توسيع مواقع المكبّات مثل «كوستا برافا» لاستيعاب الحطام.
ويضيف مهدي: «يمكننا القيام بذلك بطريقة أفضل للبنان والبيئة، لكنّه سيستغرق وقتاً أطول وربما يكلّف أكثر. أخشى أن تختار الحكومة الطريق الأسهل».
تعمل مجموعة «أرض لبنان» (Terre Liban) للدفاع عن البيئة على الضغط على الحكومة للعثور على خيارات أكثر استدامة، إلى جانب الصيادين الذين يكسبون رزقهم من المياه قبالة الساحل.
وأوضح إدريس عتريس، رئيس جمعية الصيادين التي تعمل على طول الساحل جنوب بيروت، أنّ إنشاء مكب «كوستا برافا» بعد الحرب السابقة كان كارثة للصيادين المحليّين: «دُمِّرت الحياة البحرية وبدأت تتعافى فقط في السنوات القليلة الماضية».
في كانون الأول، خصّصت الحكومة اللبنانية الموقتة 25 مليون دولار لتقييم الأضرار والهدم وإزالة الحطام. لكنّها كانت غامضة بشأن التفاصيل، على رغم من تأكيدها أنّ الاعتبارات البيئية ستكون في الحسبان.
وأوضح وزير البيئة ناصر ياسين، أنّ التعامل مع الحُطام من المناطق حول بيروت كان أكثر صعوبة بسبب حجمه الكبير واحتمال احتوائه على مواد خطرة ونقص المساحة داخل مسافة معقولة للنقل بالشاحنات.
أمّا علي حمية، وزير الأشغال العامة والنقل اللبناني، فرأى أنّ الحَلّ الوحيد هو التخلّص من الحطام من منطقة بيروت بجانب «كوستا برافا». لكن يؤكّد عتريس أنّ ذلك سيُهدّد الحياة البرية المهدّدة بالفعل في المنطقة: «هذا هو المكان الذي تضع فيه السلاحف بيضها. لن نقبل بذلك».
ووافقه بول أبي راشد، رئيس جمعية «تير ليبان»، موضّحاً أنّ المعادن الثقيلة والمواد الكيميائية التي تُغسل من الحطام ستذهب مباشرة إلى البحر الأبيض المتوسط، ممّا يُسمِّم ليس فقط المياه اللبنانية لكن أيضاً الأوروبية، بسبب مسار التيارات المحيطية. وأضاف: «ليس من المنطقي استخدام البحر الأبيض المتوسط كمكب للنفايات».
وأشار إلى أنّ التخلص من النفايات غير المعالجة على الأرض ليس حلاً أيضاً، إذ يمكن أن تغسل الأمطار الملوّثات وتتسرّب إلى الأنهار والبحَيرات في لبنان، ومن ثم إلى البحر الأبيض المتوسط.
ويمكن لإعادة التدوير أن تساعد في تقليل انبعاثات الكربون في لبنان. ووفقاً لحسابات تشارلي لوري، المتخصِّص في الطاقة والبيئة في معهد بديل للسياسات اللبنانية، يمكن أن ينتج من إعادة بناء ما فُقِد خلال الحرب حوالى 14,8 مليون طن من انبعاثات الغازات الدفيئة، معظمها من تصنيع الإسمنت.
وأوضحت نجاة عون صليبا، النائبة اللبنانية والعضو في لجنة البيئة، أنّه إذا أعيد تدوير الحطام ليصبح حصى ومواد بناء، فإنّ ذلك سيساعد في تقليل تلك الانبعاثات مع توفير تكلفة إنتاج الخرسانة الكثيفة استهلاك الطاقة. وأضافت: «نحتاج إلى التفكير بشكل مختلف بشأن الحطام. ليست نفايات، إنّه مورد».