غرق رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو في مسلسل خسائره من غزة إلى جنوب لبنان، وهو المحاصر بظروف سياسية داخلية صعبة باتت تشدّ الخناق حول عنقه مع استقالة ضباطه ومسؤوليه الكبار بسبب "طوفان الأقصى". هذا الواقع الصعب، والذي يضعه أمام احتمال سقوط حكومته، لن ينقذه بالتأكيد إطلاق حملته على جنين في الضفة الغربية.
وكما أخطأ التقدير في غزة فهو أخطأ القراءة مرّة جديدة في جنوب لبنان. فعلى رغم من الدمار وحرب الإبادة التي مارسها الجيش الإسرائيلي في غزة على مدى أكثر من 15 شهراً، وخلافاً للتعنت الذي مارسه بالتهرّب المتواصل من قرار وقف النار، خضع نتنياهو أخيراً لهدنة ولو موقتة ولتبادل الأسرى. لكن حركة "حماس"، والتي كان من المفترض أن تكون منهكة ومهشمة، ظهرت في مشهد معاكس وفي صورة متقنة. فهي نفّذت استعراضاً مدهشاً وحمل عناصرها أسلحة إسرائيلية كان جرى الإستيلاء عليها خلال عملية "طوفان الأقصى"، لتنجح بإرسال رسالة قوية إلى الشارع الإسرائيلي. ومعه سجّلت "حماس" نقطة معنوية قوية ضدّ نتنياهو الذي بدا في موقف دفاعي تراجعي.
وقد يكون نتنياهو فكّر بالتعويض في لبنان، فارتكب خطأه الثاني على التوالي ليزيد من التهشيم اللاحق بصورته. فهو ربما احتسب بأنّ التعب والإنهاك حلّا بالجنوبيين، مضافاً إليهما شعور الوحدة لدى "حزب الله" بعد كل ما حصل والتبدّل الذي أصاب الخريطة السياسية في المنطقة. لكن نتنياهو صُدم "بهجوم" السكان العزّل والذين تقاطروا للعودة وتفقّد منازلهم المهدّمة، والذين واجهوا الرصاص والقتل من دون خوف. ومرّة إضافية سيضطر نتنياهو تحت الضغط الحاصل للخضوع لقرار الإنسحاب وبالتالي مضاعفة خسائره.
وخلال الأيام التي سبقت، أبلغ لبنان على لسان رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون إلى واشنطن، أنّ أعذار إسرائيل بتأجيل انسحابها غير مقنعة وغير مقبولة. فالتأخير لأسباب تقنية يحتمل أياماً معدودة وليس أسابيع، ما يعني أنّ إسرائيل تتلطّى وراء ذرائع واهية بهدف البقاء في جنوب لبنان لفترة طويلة، وهو ما لن يقبله لبنان بأي شكل من الأشكال. وحذّر عون من المضاعفات الكبيرة التي يمكن أن تنتج من هذه الخطوة.
ومع تسلّم دونالد ترامب مهمّاته الرئاسية رسمياً، بدت صورة السياسة الأميركية تجاه المنطقة غير واضحة. فعلى رغم من الرعاية الأميركية المباشرة لاتفاق وقف النار في لبنان، والذي اطلّع عليه ترامب نفسه وشارك فيه، ساد همس أميركي بالموافقة على تأجيل الإنسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان خلافاً للإتفاق الحاصل. ومعه ظهر السؤال الأهم حول الخلفية الحقيقية لقرار "نقض" الإتفاق وأهدافه. فالحركة العسكرية الإسرائيلية أوحت وكأنّ المطلوب الذهاب إلى تأجيل تلو التأجيل تمهيداً لبقاء دائم في نقاط حساسة واستراتيجية في الجنوب، وفي انتظار ظروف إقليمية في المستقبل تسمح بعودة عسكرية إسرائيلية حتى الليطاني، وهو ما يعتبره اليمين الإسرائيلي الحدود الفعلية لإسرائيل، ربما في إطار تغيير وجه الشرق الأوسط والذي كان نتنياهو بشّر به.
قبل ذلك كانت الحكومة الإسرائيلية قد باشرت المرحلة الثالثة من حربها المفتوحة بجعل حياة الفلسطينيين صعبة في الضفة الغربية انطلاقاً من العملية على جنين. لكن المفاجئ كان في موقف إدارة ترامب، ما يستوجب كثيراً من التدقيق والبحث في الخلفيات.
ذلك أنّ الإدارة الأميركية الجديدة أعلنت وقف كل المساعدات الخارجية، والتي وعلى سبيل المثال كانت بلغت العام الماضي نحو 68 مليار دولار. وإذا كان مفهوماً ومتوقعاً إستثناء إسرائيل من هذا القرار، إلّا أنّ استثناء مصر فقط منه شكّل علامة استفهام. وجاء بعده كلام ترامب وهو في الطائرة الرئاسية ليلقي الضوء على بعض جوانب هذه الخلفية. فهو دعا الأردن ومصر إلى استقبال مزيد من أعداد الفلسطينيين من الأراضي الفلسطينية، ومعللاً ذلك بأنّ قطاع غزة مدمّر بكامله وهو في حالة فوضى. واقترح ترامب بناء مساكن في مواقع مختلفة في الأردن ومصر، حيث يمكن للفلسطينيين العيش في سلام. والأهم من ذلك قول ترامب إنّه يمكن أن يكون نقل سكان غزة موقتاً أو طويل الأمد. واستطراداً فإنّ صورة استثناء مصر من قرار وقف المساعدات الخارجية الأميركية يصبح أوضح وأقرب إلى الإعتقاد بأنّه يدخل من باب "الرشوة" السياسية لبلد يعاني من مصاعب اقتصادية كبرى، فاقم من خطورتها تراجع الحركة عبر قناة السويس نتيجة استهداف الحوثيين للسفن التجارية في بحر الخليج. ما يعني أنّ المشروع الضمني هو أن تكون النتيجة الفعلية لحرب الإبادة في غزة "تفريغ" الأراضي من الفلسطينيين لمصلحة مشروع يهودية الدولة الإسرائيلية. وهو أيضاً ما يفسّر توقّع ترامب ألّا يصمد اتفاق وقف النار في غزة طويلاً. أي الإحتمال الغالب هو عودة العنف ربما لإتمام المشروع المطروح.
ومن هنا أيضاً يمكن فهم الخلفية الإسرائيلية تجاه جنوب لبنان والهدف الفعلي من محو البلدات والقرى الجنوبية تمهيداً لإفراغ المنطقة الممتدة حتى الليطاني من السكان والإطباق عليها وضمّها مستقبلاً إلى الكيان الإسرائيلي.
ولكن "هجمة" الجنوبيين السلمية وتحرك وحدات الجيش اللبناني على رغم من إطلاق النار المباشر عليهم، وسقوط كثير من الشهداء والجرحى، جعلت إسرائيل في موقف ضعيف خصوصاً أمام الرأي العام العالمي، وكذلك جعلها فاقدة الحجة أمام لبنانيين يريدون تطبيق اتفاق تمّ إقراره تحت الرعاية الدولية. وبالتالي فمن المتوقع أن تتحرك الإدارة الأميركية وترسل موفداً لإجراء الترتيبات التي تلزم إسرائيل بالإنسحاب. وهنا لا بدّ من تسجيل انطلاقة مشوشة لإدارة ترامب مع أولويات غامضة وغير واضحة في شقها الخارجي، وغير منظمة ومتماسكة ومدروسة في شقها الداخلي.
فبعد انتخابه، وخلال الفترة الفاصلة عن دخوله البيت الأبيض، صدرت مواقف عدة عن ترامب والفريق المعاون له بأنّه فور بدء ولايته الثانية سيعمد فوراً إلى حلّ ملف الحروب في الشرق الأوسط وإنجاز تسوية شاملة مع إيران بعد تطبيق سياسة الضغط إلى الحدّ الأقصى، طبعاً إلى جانب ملف الحرب الأوكرانية. وباشرت طهران تحضير نفسها لسياسة تشديد العقوبات، وذهب الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان إلى موسكو في ما يشبه الإستنجاد بأوراق روسية لمواجهة الضغوط القصوى المتوقعة. لكن بزشكيان لم ينل من موسكو سوى اتفاقيات طابعها تشاركي، ولكن لم تصل إلى حدود التحالف.
ولكن مع انقضاء زهاء الأسبوع من بدء ولاية ترامب لم تظهر معالم السياسة التي لوّح بها. لا بل لم يتحرك في اتجاه الشرق الأوسط كما كان متوقعاً، بل يتبين أكثر فأكثر أنّ التحرك الأميركي سيقتصر على حركة المبعوثين الخاصين لا على الإدارة ومسؤوليها الكبار. فتمّت إضافة الملف الإيراني إلى مهمات مبعوث الشرق الأوسط ستيف ويتكوف والذي سيزور غزة لمراقبة وقف النار.
وقد يتسلّح البعض بتفسير مفاده أنّ الإرباك في أولويات السياسة الخارجية الأميركية قد يكون مردّه إلى عدم اكتمال فريق إدارة ترامب. لكن ثمة ما يعزز نظرية "الإنطلاقة المشوشة" لإدارة ترامب. ذلك أنّ الرئيس الأميركي، والذي كان تحدث مراراً عن ضرورة إعادة ضبط إجراءات اكتساب الجنسية الأميركية، باشر حركته من خلال منع المولودين على الأراضي الأميركية من أبوين غير أميركيبن من اكتساب الجنسية الأميركية. لكن قراره بدا إرتجالياً وغير مدروس، بعدما نقضته وجمّدته المحكمة الأميركية. وهو ما يؤشر إلى أنّ برنامجه الذي لوّح به بقوة خلال الأشهر المنصرمة لم يحظ بالدرس الكافي.
لكن الأهم استدارته في اتجاه الملفات الداخلية الأخطر، والمقصود هنا تفكيك أو ضرب الدولة العميقة. فإعلان ترامب عن نيته إزالة السرّية عن ملف اغتيال الرئيس السابق جون كينيدي إضافة الى مارتن لوثر كينغ، إنما يدخل في إطار التمهيد للإنقضاض على رجال الدولة العميقة، كون الإنطباع الغالب هو أنّ المخابرات الأميركية وجهاز الـFBI هما من توليا تصفية كينيدي وزعيم السود. وهنا يتبادر السؤال الأهم: في حال انزلاق ترامب في اتجاه نزاع داخلي عنيف وخطير فهل ستسمح له الظروف عندها للتفرّغ للملفات الخارجية؟
وثمة سؤال آخر لا يقلّ أهمية ولديه سوابق تاريخية ومفاده: من يضمن أن لا يتحالف رجال الدولة العميقة مع خصوم واشنطن على الساحة الدولية لتوجيه ضربة لترامب تجعله ضعيفاً وعاجزاً داخلياً عن محاربة رجال الدولة العميقة؟ فأيام جون كينيدي وحين بدأ النزاع يشتد بين إدارته ومؤسسات الدولة العميقة، حصل تقاطع موضعي بين المخابرات الأميركية والإتحاد السوفياتي، وحيث جرى إمرار صور من المخابرات الأميركية لجهاز الـ"كا .جي. بي" السوفياتي حول وجود طائرات تجسس أميركية في الأجواء السوفياتية وبشكل يناقض الإتفاقيات بين البلدين. وحين رفع خروتشوف الصور في الأمم المتحدة بدا الحرج الشديد على كينيدي، ما تسبّب له بصفعة قوية.
ومناسبة هذا الحديث الملفات الدولية المفتوحة مع كل من إيران في الشرق الأوسط وروسيا في أوكرانيا. وأياً يكن الجواب إلّا أنّ من الثابت أنّ انطلاقة ولاية ترامب الثانية تبدو غامضة وغير متماسكة أقله حتى الآن. أضف إلى ذلك نجاح المخابرات الأميركية في البدء بسياسة احتضان السلطة الجديدة في سوريا، وهو ما تحدثت عنه صحيفة "واشنطن بوست" حول دور الـ "سي آي إي" في مساعدة دمشق على اكتشاف محاولة تفجير مقام السيدة زينب جنوب غرب دمشق واعتقال أفراد خلية "داعش".
واستنتاجاً فإنّ السقوط الثاني لنتنياهو في جنوب لبنان بعد غزة سيرتد عليه في الداخل الإسرائيلي. لكن على لبنان الحذر والتأني في خطواته، كون الخلفيات الإسرائيلية أكبر وأبعد وأخطر من مطالب أمنية، لتلامس تغييرات جغرافية. والأهم أنّ انطلاقة ترامب "المشوشة" تجعل إسرائيل أكثر حرية في حركتها مستقبلاً.
أضف إلى ذلك أننا "أساتذة" في إهدار الوقت وحرق الفرص، وهو ما يبدو واضحاً وجلياً مع التعثر المرافق لعملية تأليف حكومة العهد الأولى، ما أفقدها كثيراً من الزخم الشعبي الذي أحاط بوصول العماد جوزاف عون إلى قصر بعبدا.