لستُ أُذيعُ سرّاً، لو لمْ يكُنْ من المفيد أنْ أذكر صِفَةً لم تُذْكر من مواصفات الرئيس جوزاف عون، وهي الإلْمامُ بعُمقِ المعارف التاريخية التي تُكْتسَبُ منها العِبَر.
في لقائي معه قبل أيامٍ من انتخابه، وفي معرض الحديث عن الرئاسات وبرامجها، هو الذي ألمحَ إليَّ بالكتاب الذي وجَّههُ الإمام علي بن أبي طالب إلى «مالك الأشتر» بما أوصاهُ فيه حين أوكَلَ إليه ولايةَ مصر.
وهذا الكتاب لمنْ لم يقرأْهُ يصحُّ أنْ يكون أفضل برنامج حكمٍ لكلِّ حاكمٍ وفي كلِّ زمان.
ولقد لمستُ وأنا أستمع إلى خطاب القسَمِ الذي ألقاهُ الرئيس جوزاف عون في المجلس النيابي، أنّ في هذا الخطاب كثيراً من الملامح التي يحتويها ذلك الكتاب.
قد يُقالُ لي: إنّ المجالس بالأمانات، ولكنّ الأمانات عندما تكون حميدةَ الحسنات فقد يُصبح إعلانُها أفضلَ مِنْ كتمانها.
ولكن، على ذكْر الأمانة والمجالس، ألَمْ ينقسم المجلس النيابي إلى مجالس على مدى سنتَين وبعض السنة، مجالس: لم يكنْ فيها أمانات: لا للمسؤولية الوطنية، ولا للإستحقاقات الدستورية، بقدر ما كانت بريئةً مِنْ دمِ هذا الصدّيق الذي اسمهُ الدستور.
والذين يتباكون على الدستور، وعلى السيادة المنْتهكةِ بوحيٍ خارجي، ألمْ يكونوا هُـمْ ينتهكون عفّةَ الدستور، ويفترسون طهارةَ السيادة بالدعارةِ الخارجية والإغتصاب؟
إنَّ التخلّي عن المسؤولية الدستورية، هو الذي حلَّلَ هذا الحرام الخارجي، ولولاه لما كان استحقاقٌ ولا رئاسةٌ ولا رئيس، ولكان المجلس النيابي أضاع هذه الفرصة النادرة، وأطلقَ رصاصةَ الرحمة الشرعية على نفسه، وعزَل نفسَهُ عن الشعب، وعزلَ الشعبَ عن الدولة، وعزل الشعب والدولة والوطن عن التاريخ.
بالعودة إلى الرئيس والخطاب الرئاسي، فلن أتناول مضمون هذا الخطاب، وقد كان كلُّ بندٍ من بنوده بمثابة البلْسَم لكلِّ جرح، بقدر ما لفتَتْني وقفةُ الرئيس الرجل، فكان في تعهُّداته صدْقٌ وعزْم، وفي طروحاته حزمٌ والتزام.
أنا، لا أؤمن كثيراً بما يُكْتَبُ على الورق من خُطَبٍ وبرامج وبيانات، فإنّ ما تلفظُهُ الألسنةُ والإقلامُ من كلام، قد يتبخّر مع ميوعة الممارسة وفقدان خصوبة الرجولة، هكذا كان شأنُ الكثير من الخطب الرئاسية والبيانات الوزارية على مدى الغابر من الأيام ولا مجالَ لاستعراضها.
البرنامج هو الرجل: رجلُ الهيبة والمهابة والوّقار والعنفوان، في بلدٍ تتنازع فيه السياسة بين مراوغة الثعالب وأصحاب المخالب، وفي كتاب «كليلة ودمنـة»: «أنّ الأسد إذا قفزتْ فوقه الثعالب والذئاب سابَتْ سلطةُ الغاب...».
«... سأمارس صلاحيات رئيس الجمهورية كاملةً». هكذا قال: «اليوم بدأتْ مرحلة جديدة من تاريخ لينان... يجب تغيير الأداء السياسي، لا حصانات لمجرم أو فاسد... سأعمل على تأكيد حق الدولة في احتكار حمل السلاح...».
قالها: بلغة الرؤساء الأقوياء لا بلغة الإستجداء، الرئيس القوي بشخصيّتة لا بشعبيّته، ولا يستطيع أنْ يحقق الإصلاح والتغيير، بالقول «ما خلّونا» بل بالقول: «لن نخلّيهم».
الرئاسة المارونية منذ تكوينها التاريخي كان التنافس عليها شديد الشراسة بالسياسة، وعندما تحوّل الطموح إلى جنون ارتفع منسوبُ التنافس إلى مستوى التراشق المدفعي، فراحت الرئاسةُ إذْ ذاك تتخبّط في الفراغ ولايةً بعد ولاية، وأصبحت سلعةً يتجاذبها طموحُ القوى الأخرى.
مثلما أن انتخاب جوزاف عون كان الفرصة المتاحة لالتقاط الرئاسة من الفراغ، نرجو أن تكون رئاسة جوزاف عون الفرصة المتاحة لإنقاذ الرئاسة المارونية الراقدة على رجاء القيامة، حتى لا يظلَّ الموارنة ينتظرون مسيحاً جديداً يؤمّن لهم الخلاص وهو معلَّقٌ على الصليب.