الغاز في منطقتنا أو ما أصطلح الغرب على تسميتها بـ» الشرق الاوسط» ليس مجرد طاقة او ثروة اقتصادية، بل هو قوة قد تقتل وتخلق في آن واحد. لذا فإنّ محاولة قراءة ما يدور من حروب إبادة جماعية وتدمير غير موصوف في المنطقة لا يمكن ان يتمّ بمعزل عن النزاع العالمي للقوى الكبرى حول مصادر الطاقة وسلاسل التوريد والنقل البحري.
فلو عدنا إلى الماضي القريب، شكّل اكتشاف الغاز على سواحل البحر المتوسط سببًا لبداية التوتر والتصعيد الإقليمي، فكان اكتشاف حقل تامار عام 2009 بداية لأزمة لبنان مع اسرائيل حول حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة بين لبنان وفلسطين المحتلة، وما أعقبها من ربط مسار ملف التنقيب والاستكشاف عن النفط والغاز في لبنان بمعادلة التهدئة والسلم جنوبًا مع إسرائيل. وبالمثل شكّلت بداية الحرب الأهلية في سوريا عام 2011، هدفًا رئيسيًا للسيطرة وبسط النفوذ على حقول الغاز والنفط، سواء من قبل الحكومة السورية أو الفصائل المسلحة أو القوى الأجنبية. فـ«قوات سوريا الديموقراطية» (قسد) المدعومة من الولايات المتحدة الأميركية، سيطرت على عدد من حقول النفط والغاز في شمال شرق سوريا، بما في ذلك حقل «الرميلان» الذي يُعتبر من أهم حقول الغاز هناك. في حين سعى الجيش السوري، المدعوم من روسيا، للسيطرة على حقول الغاز والنفط في مناطق أخرى كدير الزور، التي كانت تحت سيطرة تنظيم «داعش» لفترة طويلة، فكان الغاز في هذه المناطق ليس مجرد ثروة محلية بل نقطة مفصلية في تحقيق أهداف استراتيجية للقوى الخارجية. كما كان اكتشاف حقل غاز «افروديت» عام 2012 في المياه الاقتصادية القبرصية قبالة سواحلها مع تركيا، سبباً في تصاعد التوتر بين تركيا وقبرص، ما دعا تركيا آنذاك للتهديد باستخدام القوة لمنع الشركات الأجنبية من التنقيب في هذه المياه. ومنذ ذلك الوقت سعت تركيا لتوسيع نفوذها في البحر الأبيض المتوسط عبر التنقيب عن الغاز. وما تبديه تركيا حاليًا من حرص على إعادة الاعمار في سوريا لا يمكن قراءته بمعزل عن تطلعاتها الدائمة في ان تصبح محركًا رئيسًا لسوق خطوط أنابيب النفط الخام والغاز الطبيعي بين المنطقة واسواق الطاقة العالمية، والتي قد يشكّل حلمها في إنشاء مشروع خط الغاز القطري ـ التركي الذي يمرّ عبر سوريا السبيل لتحقيقه، هذا المشروع الذي رفضه نظام الاسد خشية تأثيره على المصالح الروسية.
أما بالنسبة إلى حرب غزة، فقد بدأت الحرب في تشرين الاول عام 2023 قبيل توقيع اتفاقية تطوير حقل «غزة مارين» بين الجانب المصري والسلطة الفلسطينية، ويُعتبر هذا الحقل من أقدم الحقول المكتشفة في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط في العام 1999 ويحتوي على قيمة تقديرية من الغاز 1.5 ترليون قدم مكعب. وقد عرقلت إسرائيل منذ اكتشافه استفادة الجانب الفلسطيني منه. وقد بات هذا الحقل مجهول المصير مع استمرار أحداث غزة. لكن قراءة للنزاع الدائر في غزة من منظور الأطماع الاسرائيلية للسيطرة على موارد الطاقة للقطاع وسواحله، تكشف جانباً من الأهداف غير المعلنة لحرب غزة، والتي كشف بعضاً منها وزير الخارجية الاسرائيلية حين عرض على الاتحاد الأوروبي خلال حرب غزة خريطة توضح ميناء لبيع الغاز المسال على ساحل غزة.
ولا تقف أطماع «اسرائيل» في قطاع غزة على الثروات الغازية في المياه الفلسطينية المحتلة، بل يصل إلى حلمها في إنشاء قناة بن غوريون كقناة بديلة لقناة السويس المصرية، لوصل البحر الأحمر مع البحر الأبيض المتوسط، والذي لا يمكن تنفيذه عمليًا في ظل بقاء غزة خارج السيطرة الإسرائيلية. ولا بدّ من الإشارة في هذا الاطار إلى انّ النزاعات الاقليمية في المنطقة، ولا سيما منها النزاعات في البحر الأحمر، أثّرت سلبًا على عمل قناة السويس التي خسرت 60 في المئة من دخلها لعام 2024 بالمقارنة مع عام 2023، وفق ما صرّح به الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، بسبب النزاع الدائر في المنطقة، فباتت هذه الخسائر تمهّد الطريق لإسرائيل وحلفائها بتحقيق حلمهم في إنشاء قناة بن غوريون، وسيشكّل بالتالي السيطرة على قطاع غزة وتهجير سكانها خطوة استراتيجية لإسرائيل نحو السيطرة المطلقة على موارد القطاع.
ووفق كثير من المحللين والمفكرين المعروفين بقراءاتهم وتحليلاتهم المتعلقة بالشرق الأوسط والعلاقات الدولية، أمثال المحلل الجيوسياسي ألكسندر جيرونسكي، فإنّ منطقة البحر الأبيض المتوسط، وخصوصاً تلك التي تقع قبالة سواحل لبنان وفلسطين المحتلة وسوريا، ستظل نقطة توتر رئيسية بسبب النزاع على احتياطيات الغاز والنفط. وقد أصاب في قراءته قبل وفاته في عام 2022، حين أشار إلى انّ المنطقة مقبلة على خلفية التنقيب عن الغاز في البحر الأبيض المتوسط. وقد ذهب وفقًا لرؤيته، إلى انّ المنافسة على هذه الموارد ستتطلّب تدخّلاً أكبر للقوى الكبرى، مثل الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي، ما قد يؤدي إلى نزاعات أكثر عنفًا بالوكالة في المنطقة.
مما لا شك فيه، إنّ قراءة النزاعات في المنطقة من زاوية أمن واحتياجات الطاقة، تعكس أبعاداً أخرى للنزاع لا يمكن تجاهلها، فما قد يبدو للوهلة الأولى نزاعًا حول الارهاب، يحمل في جوهره إرهاصات تغييرات كبرى في موازين القوى الاقتصادية والأمنية والسياسية الدولية. فمعيار الإرهاب كسبب للنزاعات ليس كافيًا لفهم حالة الغليان في المنطقة، فالإرهاب هو مجرد رماد تنثره القوى الكبرى في العيون امام شعوب المنطقة المستضعفة، والتي تشاهد بلا حول لها ولا قوة القاتل ينثر الموت والدمار عليها. وما صُنّف على لوائح الإرهاب في ما سبق قد يصبح اليوم منقذًا كما حال الميليشيات المسلحة أمثال «هيئة تحرير الشام» في سوريا، والعكس بالعكس.
لذلك، فإنّ تعزيز الوعي بأبعاد هذه النزاعات ضروري لفهم أهمية الثروة النفطية والغازية الكامنة في منطقتنا ودورها في ترتيب العلاقات بين دول المنطقة والقوى الخارجية الكبرى من جهة، والتنبؤ بمحيط النزاعات تبعًا لمكامن الطاقة من جهة اخرى.