في سوق لبناني شهير: "الدمار مؤلم"
في سوق لبناني شهير: "الدمار مؤلم"
عبد اللطيف ظاهر- نيويورك تايمز
Wednesday, 08-Jan-2025 06:43

وصل أصحاب الأعمال واحداً تلو الآخر، لكنّهم كانوا متّحدين في مهمّتهم في صباح بارد من شهر كانون الأول: إنقاذ أي شيء من السوق المدمّر في النبطية، هذه المدينة الجبلية في جنوب لبنان.

شقَّ مشغل استوديو تصوير وابنه طريقهما عبر الأنقاض والمعادن الملتوية لاستعادة الصور السلبية المغطاة بالغبار وعدسات الكاميرات. سحب مالك محل ملابس كيس قمامة يحتوي على بناطيل «ليغنز» استعادها من تحت القضبان المعدنية المشوّهة. ووقف صاحب متجر للنظارات فوق ألواح خرسانية محطمة كانت ذات يوم سطح مبنى متجره.

 

واعتبر رائد مقلّد (58 عاماً) الذي كان يمتلك متجراً للنظّارات ومتجراً آخر للذهب والساعات في المبنى نفسه مع شقيقه: «كل شيء قد ذهب. كرة نار برتقالية قضت على كل شيء».

 

شنّت إسرائيل غارات جوية مكثفة، ثم بدأت غزواً برياً لجنوب لبنان في أواخر أيلول للردّ على «حزب الله»، الجماعة المسلحة اللبنانية، التي هاجمتها تضامناً مع «حماس» بعد هجمات 7 تشرين الأول 2023 على إسرائيل. وأدّى وقف إطلاق نار هشّ لمدة 60 يوماً، وُقِّع في تشرين الثاني، إلى تعليق الصراع بين إسرائيل و«حزب الله».

 

في مدينة النبطية، التي تحمل اسم المحافظة المحيطة التي يُسيطر عليها «حزب الله» إلى حَدٍّ كبير، دمّرت الضربات الإسرائيلية السوق التاريخي في 12 تشرين الثاني في ذروة الحرب. وضربة أخرى أصابت المبنى البلدي القريب بعد أيام قليلة، ممّا أسفر عن مقتل ما لا يقل عن 16 شخصاً، بمَن فيهم رئيس البلدية، وفقاً لمسؤولين لبنانيّين.

 

أوضحت إسرائيل أنّها هاجمت أهدافاً لـ»حزب الله» في المنطقة، لكنّ الادّعاء لم يتمّ التحقّق منه بشكل مستقل. وذكرت منظمة العفو الدولية أنّها لم تجد أي دليل على وجود هدف عسكري في مقر المدينة.

 

الضربات في أنحاء المحافظة، التي تحدّ كلاً من إسرائيل وسوريا، تركت مشاهد من الخراب والدمار يؤكّد الكثير من اللبنانيّين أنّها لم يسبق لها مثيل. وقدَّرت دراسة للبنك الدولي أنّ محافظة النبطية تكبّدت خسائر اقتصادية بلغت 1,5 مليار دولار خلال الحرب مع إسرائيل.

 

في صباح جديد، بعد أسبوعَين من وقف إطلاق النار، وصل مراسلون من صحيفة «نيويورك تايمز» إلى السوق، بينما جاء السكان وأصحاب الأعمال لتفقّد الأنقاض والتعامل معها. أكّدوا، واحداً تلو الآخر، أنّهم قادوا سياراتهم عبر طرق متصدّعة وقصف مستمر للوصول إلى السوق الذي يعود إلى قرون وأطلقوا عليه بحُبّ اسم «السوق». كان يوماً مركزاً نابضاً بالحياة للتجار والمتسوّقين من جميع أنحاء لبنان، لكنّه أصبح الآن مجرّد هيكل فارغ من مجده السابق.

 

قُضِيَ على المتاجر الأيقونية، مثل متجر الحلويات العريق. الجدران المنهارة والزجاج المحطّم والفولاذ الملتوي كانت في كل مكان. وبدلاً من الأعشاب العطرية والمنتجات الطازجة التي كان العديد من الأشخاص يبحثون عنها في السوق، كان الهواء لا يزال يحمل رائحة دخان وحروق.

 

وبقِيَت تماثيل عرض الملابس على أكوام الأنقاض والأسلاك. فواتير وأقراص مدمجة وأحذية رياضية ممزّقة كانت متناثرة على الأرصفة المحترقة.

 

واعتبرت نيران علي (58 عاماً) بينما كانت تقف وسط الأنقاض: «هذه كارثة». على مدار 16 عاماً، كانت تدير متجراً لملابس الأطفال في السوق لدعم أسرتها المكوّنة من 4 أفراد. الآن، تقريباً كل شيء - ما يقرب من 100,000 دولار من البضائع - قد ضاع: «مؤلم النظر إلى الدمار. أملنا الوحيد في الله».

 

عبر الشارع، كان عبد الرؤوف فرحات (34 عاماً) يتفقد الأضرار التي لحقت باستوديو التصوير الخاص بوالده. لم ينهر المبنى بالكامل، لكنّه تعرّض إلى شقوق عميقة، وعوارض مكشوفة، وسقف يتسرّب. في الداخل، كان كل شيء مغطى بطبقة سميكة من الغبار: جهاز نسخ مستندات تالف، الكاميرات، وإطارات الصور الخشبية.

 

افتتح والد فرحات، حمزة، «مختبر تصوير أمل» في عام 1982. ومنذ ذلك الحين، كانت أجيال من العائلات في أنحاء النبطية تأتي لالتقاط صور الزفاف والتخرّج. كما درّب فرحات الأكبر (65 عاماً) المصوّرين الشباب - بما في ذلك ابنه، الذي يعمل الآن كمصوّر ومصوّر فيديو في أنحاء الشرق الأوسط وإفريقيا.

 

وأوضح فرحات الابن، أنّ الضرر الذي أحدثته الضربات الأخيرة حول مؤسسة كانت رمزاً للمجتمع والذاكرة الجماعية، إلى تذكير كئيب بتكاليف الحرب الباهظة، مضيفاً: «كل شيء قد ذهب. لكنّ والدي والنبطية ما زالا صامدَين، وسيبدأ من جديد من الصفر».

 

قصة استوديو التصوير - والسوق الأكبر - مرتبطة بشكل وثيق بالماضي المضطرب للمدينة.

 

هاجمت إسرائيل النبطية في الأعوام 1974 و1978، واحتلّتها لمدة 3 سنوات ابتداءً من عام 1982 بعد غزوها جنوب لبنان رداً على قصف منظمة التحرير الفلسطينية لشمال إسرائيل. كما قصفت النبطية في عامَي 1993 و1996، وخلال الحرب التي استمرّت لمدة شهر في عام 2006 أثناء اشتباكها مع «حزب الله» في المنطقة.

 

يُعدّ «حزب الله» قوة مهيمنة في النبطية، التي تتميّز بأغلبية سكانية شيعية، على رغم من أنّ الجماعة لا تحظى بتأييد كامل من جميع السكان. في شوارع عدة في المدينة، تُلصق صور حسن نصر الله، زعيم «حزب الله» الذي اغتالته إسرائيل في أيلول، على الجدران وأعمدة الكهرباء.

 

عندما هاجمت إسرائيل السوق في عام 2006، أكّد أصحاب الأعمال أنّ الجماعة المدعومة من إيران قدّمت لهم بعض الأموال لإعادة البناء. لكن هذه المرّة - مع ضُعف «حزب الله» وتراجع قدراته العسكرية وبنيته التحتية، وحليفه في سوريا قد أُطيح به - لم يقترب أي شخص منهم لتقييم الوضع أو تقديم الدعم، بحسب ما ذكر العديد من أصحاب الأعمال.

 

في أواخر كانون الأول، أعلن «حزب الله» عن برنامج لإعادة بناء القرى الجنوبية التي تضرّرت جراء الغارات الإسرائيلية. وأوضح مسؤولو «حزب الله» أنّ الأولوية ستُمنح للعائلات التي تضرّرت منازلها بالكامل أو جزئياً، لكنّهم لم يحدّدوا متى أو ما إذا كانت الشركات ستتلقّى دعماً مالياً.

 

كما صرّح «حزب الله» أنّ مهمّة إعادة الإعمار هي مسؤولية وطنية، وأنّ على الدولة - التي يمتلك عليها نفوذاً كبيراً - أن تتحمّل أيضاً مسؤولية مساعدة المواطنين في إعادة البناء.

 

واعتبر خليل طحيني (67 عاماً)، صاحب متجر للملابس الداخلية واللانجري الذي دُمِّر: «كل بضع سنوات، نخسر كل شيء.» وأضاف أنّه عندما تعرّض متجره إلى أضرار في عام 2006، أعطاه «حزب الله» 18,000 دولار كتعويض - جزء بسيط من أكثر من 100,000 دولار فَقَدها فاضطرّ إلى بيع ممتلكاته لإعادة بناء عمله.

 

وأضاف طحيني أثناء مشاهدته الجرافات تزيل الأنقاض من حيث كان متجره ذات يوم: «سنعود، لكنّ الأمر سيستغرق وقتاً».

 

في الوقت الحالي، بدأت العملية البطيئة والشاقة لإعادة البناء. في أنحاء النبطية، تظهر إعلانات ولافتات باللغة العربية تقول: «سنعيد البناء معاً» أو «سيعود أفضل».

 

عاد حسن جمال صبوري وعائلته إلى المدينة من العاصمة بيروت بعد ساعات من بدء وقف إطلاق النار في أواخر تشرين الثاني. وأقرّ بأنّ ما وجده أبكاه. محطة الوقود ومغسلته، التي بناها جدّه قبل عقود، كانت قد دُمّرت. وشقته في الشارع عينه، التي جهّزها بأثاث فاخر بلون الكريم، قد تعرّضت إلى الخراب.

 

لكنّ الغارات لم تضرب خزانات الوقود تحت الأرض، ممّا سمح له بفرصة البدء من جديد. فأكّد وهو يشرف على العمال الذين يُزيلون الأنقاض ويَمزجون الإسمنت: «نبقى أقوياء وصامدين»، ويأمل أن تعيد محطة الوقود فتح أبوابها خلال شهر.

 

أمّا مقلّد، الذي كان يُدير متجر النظارات، فلم يكن محظوظاً. عندما عاد وعائلته إلى السوق، أدركوا أنّهم فقدوا بضائع بقيمة مئات الآلاف من الدولارات. النظّارات، معدّات إصلاح النظارات، وأدوات تنظيف الذهب قد دُمّرت. من بين 1200 ساعة كانت في المتجر، استعادوا أكثر من 100 بقليل فقط. كما تعرّض منزله إلى ضربة خلال الغارات، ليقيم الآن في غرفة ضيوف مكوّنة من غرفة واحدة.

 

وعلى رغم من الشعور الساحق بعدم التصديق، أكّد أنّ ليس لديه خيار سوى إعادة البناء. واستأجر وشقيقه متجراً آخر، ويخطّطان لإعادة تشغيل عمل النظّارات على نطاق أصغر، مضيفاً ووجهه شاحب ومنهك: «الحياة يجب أن تستمر. إذا توقفت، فهذا يعني أنّك ميّت».

theme::common.loader_icon