تمتلئ طريق انتصار المتمرّدين بأدلة إلى هزيمة الجيش السوري. كما أنّها تعكس المهمّة الكبيرة المتمثلة في محاولة إعادة بناء البلاد. أكثر من 50 دبابة ومركبة عسكرية متناثرة ومهجورة عبر ساحات العرض والتدريب في قاعدة عسكرية شمال سوريا، استولى عليها المتمرّدون في هجومهم الخاطف الذي أطاح الرئيس بشار الأسد.
المبنى الرئيسي للحامية كان يحمل آثار انفجارَين كبيرَين، لكنّه لم يُظهر علامات على قتال قريب. انتهى الهجوم في يوم واحد عندما انسحب الجنود السوريّون، بحسب أبو محمد، مقاتل متمرّد يَحرس القاعدة.
ترك الجنود الحكوميّون وراءهم فوضى قذرة من مستلزمات الجيش: ملابس، بطانيات، أقنعة غاز وخوذات، وعلب صفيح فارغة. كانت ظروف المعيشة بدائية، من دون نوافذ أو أبواب - بل ثُبِّتت أكياس أو صفائح معدنية فوق الفتحات.
تعكس القاعدة الفرصة لحكومة جديدة نشأت من حملة عسكرية مُعدّة جيداً، جَمَعت مجموعات متمرّدة مختلفة، ونجاحها فاجأ حتى مقاتليها. لكنّها تمثل أيضاً مقياساً للتحدّيات المقبلة أثناء محاولتهم إعادة بناء بلد دمّره أكثر من عقد من الحرب الأهلية، ممّا حرم الجيش من الموارد واستنزفه.
أعلنت القيادة الجديدة في البلاد أخّيراً خطة لتوحيد الفصائل المتمرّدة المختلفة تحت حكومة واحدة، ولخدمة مقاتليهم المسلحين معاً في جيش واحد.
في مقابلات مع العشرات من المقاتلين، أكّد كثيرون قبولهم بقيادة موحّدة تحت أحمد الشرع وقوّاته المتمرّدة، «هيئة تحرير الشام»، واستفادوا من توحيد قواتهم.
أوضح نصر النهار (41 عاماً)، قائد متمرّد بارز، أنّ مجموعته الخاصة سوّت خلافاتها مع «هيئة تحرير الشام»: «المهم هو أن نكون معاً. نحن نقاتل معاً من أجل التحرير».
لكن من المحتمل أن تستمر المرارة والانقسامات مع القوات التي لا تزال في المعارضة، بما في ذلك الميليشيا الكردية التي تسيطر على معظم شمال شرق سوريا؛ وجماعة الدولة الإسلامية المتطرّفة التي تعمل في أجزاء من وسط سوريا؛ وبقايا قوات أمن الأسد التي أظهرت علامات مقاومة.
بينما يتولّى المتمرّدون مسؤولية الأمن في البلاد وحدودها، فإنّهم يَرثون بنية تحتية عسكرية مدمّرة سيكون من الصعب الاستفادة منها أو إعادة بنائها.
وأظهرت رحلة، استمرّت 10 أيام على طول مسار تقدّم المتمرّدين من قِبل مراسل ومصوّر لصحيفة «نيويورك تايمز» ومترجم سوري، أنّ الجيش السوري الذي هزموه - والآن يحلّون محلّه - كان سيّئ التجهيز ومُحبَطاً لدرجة أنّ جنوده ألقوا أسلحتهم أو فرّوا في حالة من الذعر.
اخترق المتمرّدون دفاعات صمدت لسنوات، حاصروا وهاجموا الحاميات العسكرية غالباً من دون مقاومة تُذكر. كانت قاعدة الدبابات، التي سقطت في اليوم الثاني من العملية، متدهورة، ومبانيها بلا نوافذ محصّنة بحماية بدائية من إطارات الجرارات والبراميل المعدنية المملوءة بالتراب.
في قواعد ونقاط تفتيش أخرى بالقرب من خط الجبهة السابق، كان الجنود السوريّون يفتقرون بوضوح إلى الموارد. حفروا ملجأً بدائياً داخل مبنى زراعي، ووضعوا الأنقاض فوق صفائح الحديد المُموّجة لتوفير الحماية من القصف، ورقّعوا ثقوب القذائف في الجدران بمزيج من الطين والقش.
وكشف أبو عائشة، مقاتل في «هيئة تحرير الشام»، وهو يبتسم: «بدأنا العملية ونحن نظنّ أنّنا سنأخذ قرية واحدة فقط، وأخذنا كل سوريا».
كان أبو عائشة (24 عاماً) يجلس مع زميله المقاتل أبو حمزة (25 عاماً) في الحديقة المركزية لمدينة حماة، يُعير بندقيته الهجومية لشباب محليّين لالتقاط صور بها. وأكّدا أنّهما تدرّبا وقاتلا منذ أن كانا في الـ15 من عمرهما وسيَنضمان بكل سرور إلى الجيش الوطني.
كان بعض القتال أثناء الهجوم المتمرّد شرساً. وأقرّ أبو عائشة أنّ قائده ونائبه قُتلا عند تقاطع رئيسي في الأيام الأولى من العملية. قُتل آخرون وأصيبوا في ضربات جوية.
لكنّ المقاتلين واجهوا مقاومةً أضعف ممّا واجهوه في سنوات القتال السابقة. فالقوة الجوية الروسية والميليشيات المدعومة من إيران، التي كانت تُشكّل العمود الفقري لنظام الأسد، تقلّصت في الأشهر الأخيرة.
سقطت حلب في أيدي المتمرّدين في 30 تشرين الثاني، بعد 3 أيام فقط من القتال. وكانت حلب مدينة أسطورية تتمحوَر حول قلعة قديمة، وشهدت قتالاً مريراً عندما تحوّلت الانتفاضة السلمية عام 2011 إلى حرب أهلية. استغرق الأسد 4 سنوات لاستعادة السيطرة عليها في 2016، بمساعدة الميليشيات الإيرانية والقوات الروسية. وسقوطها المفاجئ أصاب القيادة السورية بالذهول.
وكشف عابد (39 عاماً)، ضابط شرطة سوري قدّم اسمه الأول فقط خوفاً من الانتقام: «كان الوضع خطيراً منذ سقوط حلب. لم تكن هناك قيادة. كان الصمت واضحاً».
بعد حلب، اندفع المتمرّدون جنوباً لمهاجمة مدينتَي حماة ثم حمص، وكانت العاصمة دمشق بالفعل في مرمى نظرهم.
على الطرقات، تُركت الدبابات والمركبات المدرعة مهجورة، أو تحطّمت أو تعطّلت. قلّة منها أظهرت علامات القتال، مثل الاحتراق في الانفجارات أو وجود بقع دماء من الضحايا. كانت هناك بعض علامات الذعر. إذ اصطدمت ناقلة جنود مدرعة بركن منزل في قرية، ودبابة انقلبت رأساً على عقب بعد سقوطها في خندق.
مع تقدّم المتمرّدين، استعدّ جنديان، محمود (23 عاماً) وشقيقه ممدور (26 عاماً)، للخروج من الجيش. طلب الشقيقان عدم نشر اسمهما الأخير لتجنّب العواقب.
هرب محمود عندما هاجم المتمرّدون قاعدته في منطقة الجولان الجنوبية. ركض عبر غابة مع 3 جنود آخرين واختبأ في قرية لمدة ليلتَين حتى أخبرهم مضيفهم أنّ الأسد قد سقط.
في النهاية، يشعر الكثيرون بالأمل إزاء المستقبل على رغم من التحدّيات الهائلة التي تنتظرهم.
في 7 كانون الأول، سمع ممدور أمراً عبر جهاز اللاسلكي لضابطه الأعلى يأمر بإخلاء القاعدة. فبدّل الجنود ملابسهم إلى ملابس مدنية، تركوا أسلحتهم، واستقلّوا شاحنة متجهين إلى عاصمة المحافظة.
عند نقطة تفتيش، فتّشه مقاتلو المعارضة بحثاً عن أسلحة، ثم قالوا له: «فقط اذهب إلى منزلك. كانوا يعلمون أنّ الجميع يفرّون».