كان من الممكن أن تكون قصة الملاكِمة كلاريسا شيلدز مجرّد فيلم رياضي آخر. لكن تحت إشراف راشيل موريسون وسيناريو باري جينكينز، أصبح الفيلم أكثر من ذلك بكثير.
قبل عامَين من تحوّل أزمة مياه فلينت إلى قضية وطنية، فازت شيلدز، التي وُلدت ونشأت في فلينت، بميدالية ذهبية في أولمبياد لندن عام 2012، وهو العام الأول الذي سُمح فيه للنساء بالملاكَمة في الأولمبياد. وكانت شيلدز (17 عاماً) أصغر ملاكمة هناك، فأبهرت الجميع بأدائها. وبعد 4 سنوات، كرّرت الأمر لتُصبح الملاكِمة الأميركية الوحيدة، بغضّ النظر عن الجنس، التي تحقّق هذا الإنجاز.
تجسّد رايان ديستني شخصية شيلدز ببراعة في The Fire Inside. قد يُخدَع المشاهد في البداية ليعتقد أنّه فيلم رياضي تقليدي عن رياضية شابة ذات خلفية صعبة تتغلّب على العقبات وتنتصر. لكنّه يحتوي على عناصر أعمق من الأفلام الرياضية المعتادة.
فهناك، على سبيل المثال، براين تايري هنري، أحد أعظم الممثلين الحاليّين، الذي يلعب دور مدرب شيلدز، جيسون كروتش فيلد. ويعمل جيسون متطوّعاً في صالة الملاكمة بينما يعمل في شركة كابلات لإعالة أسرته.
في البداية، يرفض تدريب كلاريسا - فهي فتاة، وصالة الألعاب الرياضية لا تدرّب الفتيات. لكنّها تصرّ، ويرى فيها شرارة مميّزة. هذه الملاكمة ليست كغيرها.
العلاقة بينهما هي ما يحرّك الفيلم - يتناول قصة جيسون بقدر ما يتناول قصة كلاريسا - وتنمو هذه العلاقة بمرور الوقت، من مدرب ورياضية إلى شيء أكثر حيوية وأكثر تصادماً. ويرى جيسون في كلاريسا شيئاً منه: طفلة من أسرة فقيرة تمتلك الدافع والموهبة لإثبات جدارتها. يُريد لها حياة مختلفة، حياة أفضل.
والدتها، جاكي (التي تلعب دورها أولونيك أديليني)، داعمة لكنّها متقلّبة المَزاج، من النوع الذي يشتري الحبوب عندما تكون الخزائن فارغة تماماً لكنّها تنسى الحليب. كما أنّها تجلب سلسلة من الرجال الغرباء إلى المنزل. وهكذا تجد كلاريسا نفسها تعتني بأشقائها الأصغر وتحميهم أكثر ممّا ينبغي لأي طفلة أن تفعل.
يدرك جيسون كل هذا، وغرائزه لحماية كلاريسا ودفعِها إلى الأمام تُعمّق علاقتهما، لتتحوّل في مرحلة ما إلى شراكة حقيقية، وعلاقة حنونة وجدلية ووفية، وجميلة أيضاً.
لكن هناك عنصراً آخر في تركيبة الفيلم السرّية، وهي المخرجة موريسون - التي أصبحت في عام 2018 أول امرأة تُرشح لجائزة الأوسكار عن التصوير السينمائي (عن فيلم Mudbound).
احتاج هذا النوع من الأفلام الحركية إلى شخص يتمتع بحسّ بصري قوي. فالوضوح هو إحدى المشكلات الشائعة في الأفلام التي تتناول الملاكمة أو المصارعة (رياضات تجري في حلبة محدّدة): يمكن أن يكون من الصعب متابعة ما يحدث داخل الحلبة. فاللكمات والتأرجحات والعرق يمكن أن تختلط معاً، فتنتظر فقط نهاية القتال لمعرفة من فاز.
لكنّ موريسون تعرف تماماً كيفية تنظيم هذه المشاهد بصرياً، لتكتسب المَشاهِد وزناً عاطفياً استثنائياً، لأنّك لا تَضيع في محاولة فهم ما تشاهده. كما تعرِف كيف تجعل التكرار ممتعاً أيضاً: يمكن تصوير بطولة ملاكمة كسلسلة من المعارك، واحدة تلو الأخرى، لكنّ موريسون تختار تصويرها كمعركة واحدة سلسة، يتغيّر فيها الخصوم باستمرار. الحَلّ أنيق ومثير يحافظ على الطاقة، يبني التوتر، وممتع للمشاهدة.
مع ذلك، كان من الممكن أن يكون تقليدياً جداً أو مبتذلاً. فإحدى مشكلات أفلام هوليوود الرياضية أنّها غالباً ما تبلغ ذروتها عند الفوز، ما يجعلك تعتقد أنّ كل شيء سيكون رائعاً بعد ذلك.
لكنّ «النار في الداخل» شيء آخر، لأنّ كلاريسا، الفائزة الاستثنائية، لم تحصل على الشهرة والثروة نفسها التي حصل عليها زميلها الأولمبي مايكل فيلبس، فظهر وجهه على علب الحبوب.
ما يجعل الفيلم ذكياً هو هيكله: يضع سيناريو جينكينز فوزها الكبير في نهاية الفصل الثاني. أثناء المشاهدة، تشعر بأنّ اللحظة الكبرى قادمة: كل سكان فلينت يشاهدونها على التلفزيون، وجيسون يصرخ من المدرّجات. ومع ذلك لا تعرف ماذا سيحدث بعد ذلك.
من دون الكشف عن أحداث الفصل الثالث، يمكنني أن أؤكّد أنّه هو ما يجعل الفيلم ناجحاً جداً. ليس بقصة فرد واحد؛ بل مجتمع ونظام مكدّس ضدّ أشخاص مثل كلاريسا. يقول الوكلاء لجيسون وكلاريسا إنّ الناس لا يُريدون رؤية ملاكِمات، ولا يوجد مال في ذلك، فهو الفوز الأكبر الذي توقعاه.
إنّها لُبنة أخرى في الجدار الذي كان يُبنى في طريق كلاريسا منذ ولادتها: والدها الغائب؛ والدتها الفوضوية؛ صدماتها الشخصية المخفية. تُقدِّم موريسون لمحة بصرية ذكية عن عقبة أخرى، لكن يجب أن تكون منتبهاً لملاحظتها: يظهر برج مياه فلينت في المشاهد التأسيسية عدة مرّات، ليذكّرنا أنّه بينما يحدث كل هذا، تتطوّر أزمة. إذا لم تكن هذه المشكلة، فهناك أخرى - وكونكِ حائزة على ميدالية ذهبية أولمبية لن يُدفع ثمن حفاضات ابن اختك. ويطرح الفيلم سؤالاً: ماذا لو فزتَ، ويبدو أنّ ذلك لا يَهمّ؟ ماذا لو لم يُقدِّر العالم نوع فوزكَ؟
شاهدت فيلم «النار في الداخل» بعد أسابيع قليلة من الجدل الذي أُثير حول هوية إيمان خليفي، الحائزة على ذهبية الملاكمة للسيدات في أولمبياد 2024. كان من الواضح أنّ القصّتَين تتشابهان، إذ تواجه الرياضيات، خصوصاً ذوات البشرة الملوّنة، عقبات هائلة في الرياضات «غير الأنثوية» بسبب التحيّزات الثقافية والاجتماعية.
هذا الواقع يتخلّل «النار في الداخل» بشكل دقيق، ويَبرُز في قصة شيلدز: ماذا يحدث إذا لم تأتِ من بيئة مرفّهة، ووجدتَ نفسكَ في القمة فقط لتكتشف أنّها تشبه كثيراً المكان الذي بدأتَ منه؟