لم تستوعب بعض الأوساط السياسية بعد كل الظروف التي رافقت الإنهيار السريع لنظام آل الأسد وسقوط الدولة الحديدية التي كانت قائمة على اقسى وأعتى أجهزة المخابرات المختلفة الاختصاصات، أمام مجموعات مسلحة لا تمتلك سوى بعض المدافع والآليات العسكرية غير المصفحة والدراجات النارية التي استُخدمت في هجماتها التي انطلقت من محافظة إدلب في اتجاه مدينتي حلب وحماة، قبل أن تسرع هذه الوحدات إلى دخول حمص بعد السيطرة على المحافظات الثلاث وأريافها بكل سهولة.
وقد تمّ كل ذلك في غياب أي عمليات عسكرية يمكن التوقف عندها، حتى تلك المتوقعة بين دورية او قوة أمنية وربما جمركية، تلاحق مجموعة مهرّبين او عصابة صغيرة تمتهن أعمال السرقة والخطف والاتجار بالبشر والمخدرات. ليس في ما سبق من عرض سياسي وعسكري وأمني وبكل المقاييس الأخرى أي تشكيك. فقد كان واضحاً انّ هناك قراراً كبيراً أدّى إلى إسقاط النظام بالضربة السياسية القاضية والجدّية هذه المرّة، ولا حاجة لقوة عسكرية ونارية كتلك التي استُخدمت في مختلف فصول الحرب السورية. وهي قوة ناعمة قد تنجح في تحقيق أهدافها قبل إطلاق الرصاصة الاولى، وهي لا تشبه أياً من التهديدات السابقة التي تعرّض لها او واجهته طوال السنوات العابرة التي تراوحت فيها المواجهات منذ العام 2011 بين مدّ وجزر، إلى أن اعتقد انّه بات متحكماً بـ "سوريا المفيدة".
وقد لا يحتاج إلى بقية المناطق في المرحلة الحالية على أهميتها، بعدما توزعت فيها السيطرة على قوى محلية واقليمية ودولية متنوعة. وتعترف مراجع عليمة، أنّ الأسد قد استوعب منذ اللحظة الاولى حجم القرار المتخذ وعلى أي مستوى قد اتُخذ، ولذلك لم يناقشه مع احد حتى اقرب المقرّبين في الداخل السوري. ذلك انّه ليس لديه من عدّة للمواجهة، لا الجيش ولا الوسائل الاقتصادية ولا الديبلوماسية ولا السياسية المختلفة. فالحلفاء اختلفوا وتفرّقوا من حوله، وتقاسموا "التركة السورية" وتبادلوا خصوماً وحلفاء كل أشكال الضمانات الأمنية والعسكرية والمالية وربما النووية، بطريقة وضعته في موقع "الجثة الهامدة" على رغم من أنّها قادرة على المشي. وبات في موقع لا يُحسد عليه بلا نصير له او حليف لا في الداخل ولا في الخارج. وإنّه لا يستطيع في غياب أي من مصادر القوة قيادة أي مواجهة لما ينتظره من ضغوط قد تفضي إلى سقوطه في النهاية وربما في حال المواجهة، ولو كانت شكلية، أن يقع معتقلاً او رهينة في أحد السجون بين لحظة وأخرى. ولذلك، قد يكون من الأفضل له تسليم المهاجمين وفتح الطرق أمامهم لئلا يعطيهم "شرف الانقلاب". وهي عبارات نُقلت عنه في محادثات أجراها قبل ساعات قليلة مع عدد نادر من مستشاريه خارج الدولة والقصر الجمهوري قبيل انتقاله سراً من دمشق إلى قاعدة حميميم الروسية الجوية وفق خطة تعهّدت بها المخابرات الروسية بما لها من اتصالات بالمحيط لتأمين انتقال آمن ومضمون، فلا تطاوله ولا تمسّه أجهزة التجسس والمراقبة لا التركية ولا الإسرائيلية التي كان يمكن ان تستهدفه او اياً من القوى المنضوية تحت لواء الثورة السورية.
واياً كانت هذه الملاحظات وما آل اليه مصير الأسد، فإنّ المراجع المعنية لا ترى انّ الانقلابيين الذين سيطروا على السلطة قد نالوا ما يؤدي إلى قيادة الدولة الجديدة او على الاقل في المرحلة الحالية.
وإنّ تشكيل الحكومة بلا حقيبتي الدفاع والخارجية خير مثال على ما ينتظر حكومة كُلفت ادارة شؤون الناس اليومية والدينية والدنيوية، ولا يحق لها التفكير لا في السياسة الدفاعية ولا في السياسة الخارجية. وإن الاستناد إلى أي موقف من مواقفهم لا قيمة له في الحالات العملية، ولن يكون لها أي تأثير على جيران سوريا وبقية الدول التي اعترفت بالسلطة الجديدة، وإن كانت إسرائيل على لائحة الأعداء او من بينهم تنطبق عليها المواصفات عينها. ولذلك كله، وبناءً على ما تقدّم، التقت مراجع قانونية دولية واخرى ديبلوماسية وعسكرية على قراءتها لفقدان حقيبتي الدفاع والخارجية من الحكومة الانتقالية، لتقول انّها معيار لعدم قيام "الدولة الوطنية".
وهي في توصيفها لها، تعتقد انّها أقرّت سلفاً بعدم السماح لها التعاطي بالمهمتين الدفاعية والديبلوماسية أياً كانت الأطراف والشخصيات المكلفة المهّمة السيادية الكبرى كما في أي دولة قائمة بكل مواصفاتها. ولذلك لا يحق لها اختيار لا الحليف ولا العدو ولا يمكنها ان تختار الى اي محور يمكن أن تنتمي ولا تمارس أي دور لها في الإقليم. وإن مهمّتها الوحيدة القيام بأعمال إدارة الدولة الداخلية وتأمين لقمة العيش لمواطنيها بالقدرات المتوافرة، وما يمكن أن توفره من دعم إنساني وربما طبي واجتماعي وإغاثي إلى ما هنالك من مقتضيات الحياة اليومية للمواطن ليبقى على قيد الحياة. وعند التوسع في تفسير مقومات هذه الدولة "الفريدة" من نوعها، طُرح أكثر من مؤشر يبرّر قيام إسرائيل بتدمير اسلحة "الدولة المنهارة" بمختلف اشكالها وقواها، في ظل صمت دولي وعربي مريب. فلا جيش يمكن أن يقوم دون المقومات الثلاثة المهدورة كالأسلحة البرية والبحرية والجوية. إذ انّه لا يستطيع القيام بأي عملية عسكرية او أمنية مركبة.
وبفقدان هذه الأعمدة الثلاثة لا يمكن التكهن بما ستكون عليه هذه الدولة، وهل لها مهمّة اخرى غير حفظ الأمن في الداخل من ضمن البقعة الجغرافية المحدّدة لها سلفاً وخصوصاً انّه كان ممنوع عليها أن تلعب أي دور إقليمي في المرحلة الراهنة. وإن طلب إلى هذه المراجع تقديم تفسير أكثر وضوحاً لا تتردد في الإشارة الى انّ مصيرها قد يكون مشابهاً لدول أخرى من المحور المستهدف. ففي العملية الكبرى التي استهدفت غزة ولبنان وسوريا وما أُصيبت به قوى محور الممانعة، تلاشت كلها، وإن بقي ما يشكّل خطراً عليها في العراق أو اليمن فهما على الطريق، وإن عاندت ايران فستطاولها هذه العملية في مرحلة لاحقة قد لا تكون بعيدة.