واجه المتمرّدون الذين استولوا على سوريا تحدّياً يتمثل في تحقيق توازن بين السعي إلى تحقيق العدالة لضحايا الفظائع التي ارتكبها نظام الأسد المخلوع، ومنع البلاد المحرّرة حديثاً من الانزلاق إلى انتقام غير منضبط.
في حين وعد قادة سوريا الجدد بالعفو عن الجنود الذين خدموا تحت قيادة الرئيس السابق بشار الأسد، أكّد قائد القوات المتمرّدة التي أطاحت به، أنّ أولئك الذين ساعدوا الأسد في ارتكاب أعمال القمع أو القتل سيُحاسبون.
وأعلن أحمد الشرع، قائد الهجوم المتمرّد، عبر تطبيق «تيلغرام»: «لن نعفو عن المتورّطين في التعذيب وقتل المعتقلين، وسنلاحقهم في بلادنا. ندعو الدول إلى تسليمنا هؤلاء المجرمين الذين فرّوا إليها لمحاكمتهم».
ولم يَذكر الشرع أي دول بالاسم، لكنّ الأسد وصل إلى روسيا في عطلة نهاية الأسبوع، بينما كان المتمرّدون يقتحمون دمشق، عاصمة سوريا.
وجاءت تصريحات الشرع في الوقت الذي حذّر فيه المرصد السوري لحقوق الإنسان، وهو مجموعة مراقبة مقرّها بريطانيا، من أنّ جماعات مسلّحة قامت بهجمات انتقامية على المدنيّين في المناطق التي كانت تُعتبر موالية لحكومة الأسد. ومع ذلك، لم يكن من الواضح مَن المسؤول عن أعمال العنف أو مَن يقودها.
وأظهرت مقاطع فيديو متداولة على وسائل التواصل الاجتماعي، تمّ التحقق منها من قِبل صحيفة «نيويورك تايمز»، مقاتلين داخل ضريح حافظ الأسد، الرئيس السوري السابق ووالد بشار الأسد، في بلدة القرداحة شمال غرب البلاد.
وفي أحد المشاهد، يظهر مقاتل يخطو على القبر، بينما يسمع آخر يشكر الله، ويردّد: «هذا انتقام لقتل أبناء عمومتي وأبنائهم على يَد هذا المجرم، حافظ الأسد، في الثمانينات. هذا هو انتقامنا». وفي مقطع آخر، يظهر المتمرّدون وهم يشعلون النار في أجزاء من الضريح.
وذكر المرصد أنّ مجموعات مسلّحة تستعد لملاحقة قادة سابقين في جيش الأسد، وأنّ جماعات مسلّحة ترتدي زياً عسكرياً كانت تنهب الممتلكات وتُرهب السكان في محافظة اللاذقية، معقل الأقلية العلوية التي تنتمي إليها عائلة الأسد، ممّا أثار مخاوف من اندلاع نزاع طائفي.
وفي حين أنّ سوريا بلد ذات أغلبية مسلمة سنّية، إلّا أنّها تضمّ مجتمعات كبيرة من المسيحيّين والدروز، بالإضافة إلى آخرين يعتنقون طوائف مختلفة من الإسلام. وكان العديد من الشخصيات البارزة في النظام المخلوع من الطائفة العلوية.
وقد أثارت مخاوف من انهيار الأمن وانتقام ضدّ مؤيّدي نظام الأسد - والعلويّين والشيعة بشكل عام - موجة نزوح إلى لبنان المجاور. ووعدت الجماعة المتمرّدة بقيادة الشرع، «هيئة تحرير الشام»، التي تتبع المذهب السنّي، بالعمل مع جميع الطوائف.
ظهر يوم الأربعاء، كان أحد الجنود السابقين في الجيش السوري، عبد الله فهد، البالغ من العمر 44 عاماً، يَجرّ حقيبته الصغيرة عبر معبر المصنع الحدودي، ودموعه تنهمر على وجنتيه، مشيراً إلى أنّه لا يُصدِّق وعود القيادة الجديدة بالعفو والمصالحة، مضيفاً: «سينتقمون. ما يفعلونه خلف الكاميرا هو أخذ الجنود وقتلهم. لا أشعر بالأمان للعودة».
وجاءت الصراعات لتوحيد البلاد بينما يسعى قادة سوريا الجدد إلى إنشاء حكومة فاعلة من أنقاض نظام الأسد.
وفي مقابلة مع صحيفة «كورييري ديلا سيرا» الإيطالية نُشرت يوم الأربعاء، أكّد محمد البشير، رئيس الوزراء الموقت لسوريا، أنّ استعادة «الأمن والاستقرار في جميع المدن السورية» هي الأولوية الأولى لحكومته.
وأضاف البشير: «الشعب مرهَق من الظلم والطغيان. يجب إعادة سلطة الدولة للسماح للناس بالعودة إلى العمل واستئناف حياتهم الطبيعية». لكنّه أشار إلى أنّ القانون والنظام يتطلّبان تمويلاً، مؤكّداً أنّ الحكومة الجديدة تفتقر إليه: «خزائننا فارغة. نحن نرث إدارة متضخّمة تعاني من الفساد».
وأضاف أيضاً أنّ البلاد لديها فقط الليرة السورية، «التي تكاد تكون بلا قيمة»، ولا تمتلك احتياطيات أجنبية: «إذاً نعم، نحن في حالة مالية سيئة للغاية».
وقد أدّى الانهيار السريع لنظام الأسد وما تبعه من فراغ في السلطة إلى اشتباكات جديدة بين الفصائل المسلحة في البلاد. وتركّزت الاشتباكات في الأيام الأخيرة في منبج، شمال سوريا، حيث تواجهت القوات المدعومة من الولايات المتحدة مع تلك المدعومة من تركيا، وهي حليف في الناتو.
وأعلنت الجماعة التي يقودها الأكراد والمدعومة من الولايات المتحدة أنّها وافقت على وقف إطلاق نار بوساطة أميركية في منبج، وهو ما لم تؤكّده الولايات المتحدة. وذكر المرصد أنّ القوات المدعومة من تركيا سيطرت على منبج يوم الاثنين، وهو ادّعاء نفته الجماعة المدعومة من الولايات المتحدة، «قوات سوريا الديمقراطية».
وأعلن وزير الدفاع الأميركي لويد جاي أوستن يوم الأربعاء، أنّ حماية القوات الأميركية في المنطقة كانت «أولوية قصوى». ويعمل حوالى 900 جندي أميركي في شمال شرق سوريا مع القوات الكردية لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية.
منذ سقوط الأسد، بدأ المسؤولون الأميركيّون في دفع ديبلوماسي لتعزيز الاستقرار في سوريا. لكنّ الجهود تعقّدت لأنّ «هيئة تحرير الشام»، التي قادت التمرّد، مصنّفة كجماعة إرهابية من قِبل الولايات المتحدة والأمم المتحدة.
ويُخطِّط مستشار الأمن القومي للرئيس بايدن، جيك سوليفان، لعقد اجتماعات حول سوريا هذا الأسبوع في إسرائيل، بينما يعتزم وزير الخارجية أنتوني بلينكن زيارة تركيا والأردن. وسيضغط بلينكن على مضيفَيه للمساعدة في ضمان انتقال سوريا إلى حكومة «مسؤولة وممثلة» تحترم حقوق الأقليات، وفقاً لوزارة الخارجية.
وأوضحت الوزارة أنّ الحكومة الجديدة يجب أن «تمنع استخدام سوريا كقاعدة للإرهاب أو تهديد جيرانها، وتضمَن تأمين وتدمير مخزونات الأسلحة الكيميائية بأمان».
وتأتي الجهود الديبلوماسية الأميركية في الوقت الذي شنّت فيه إسرائيل، أقرب حليف أميركي في المنطقة، مئات الضربات على أصول عسكرية في سوريا، مشيرةً إلى أنّها تسعى إلى منع الأسلحة من الوقوع في أيدي المتطرّفين.
واعترفت المسؤولة البارزة في وزارة الخارجية لشؤون مكافحة الإرهاب، إليزابيث ريتشارد، يوم الأربعاء، بأنّ إدارة بايدن فوجئت بالانهيار المفاجئ لنظام الأسد، وأنّ الولايات المتحدة ستحتاج إلى إيجاد طرق للتعامل مع الحكومة السورية الجديدة، على رغم من الجوانب المثيرة للقلق في ماضيها.
وأضافت ريتشارد: «لا يمكننا أن ننتظر حتى يصبح الجميع مثل الأم تيريزا ثم نتحدّث معهم. هذا الوضع يوضّح إلى أي مدى نحتاج في الوقت الحالي إلى العمل في المناطق الرمادية. هذا ليس أبيض وأسود. هؤلاء ليسوا أناس طيّبين وأشراراً».
واستطردت قائلة: «هذا لا يعني أنّنا نعترف بمجموعة إرهابية باعتبارها صاحبة السيادة في سوريا اليوم. هناك الكثير ممّا يجب أن يحدث. ومع ذلك، أعتقد أنّنا أصبحنا أكثر راحة كحكومة في العمل ضمن المناطق الرمادية».