عندما رضي الرئيس السوري بشار الاسد قبل 9 أعوام بـ «سوريا المفيدة» التي استعادتها روسيا في عملية «أسد البحر» العسكرية فجر الاول من تشرين الاول 2015 ومعها «حزب الله» والفصائل التابعة للحرس الثوري الإيراني، لم يتحمس يوماً للخطوات السياسية التي قالت بها المبادرات المختلفة ولم يعط أهمية للجهود الروسية لوضع الدستور الجديد. وبعدها فرض شروطاً لعودته إلى «الحضن العربي» قبل أن تتوحّد المعارضة لتخرجه من السلطة وفتح الطريق الوعرة إلى «سوريا الجديدة». وهذا بعض ما يفسّر هذا المسار حتى النهاية الحتمية.
يبدأ العدّ العكسي لمجموعة من السيناريوهات المتوقعة التي على الجميع انتظارها لمعرفة ما سيُرسم لسوريا الجديدة بعد أربع سنوات على الانتفاضة السورية التي انطلقت شرارتها من ساحة درعا في 11 آذار 2011 وما تلاها من عمليات عسكرية شملت اكثر من 75% من الأراضي السورية جاء التدخّل الروسي في خريف 2015 ليضع حداً لهذا الاجتياح الكاسح بناءً لطلب رسمي قالت موسكو إنّها تلقّته من السلطات السورية الشرعية المتمثلة بالرئيس بشار الأسد بمساندة علنية قدّمها «حزب الله» ومعه فصائل عدة شكّلها «الحرس الثوري الإيراني» في أكثر من منطقة تلبية لطلب سوري رسمي مماثل كما قالت طهران يومها. ومن يعود إلى تلك الفترة لا بدّ له من ان يتوقف عند العملية الروسية التي حملت اسم «أسد البحر» قبل أن تحمّل أسماء اخرى مرحلية قياساً على بعض العمليات العسكرية الاستثنائية ومنها «عملية السوخوي» التي تزامنت مع إسقاط القوات التركية في 24 تشرين الثاني 2015 مقاتلة روسية من طراز «سوخوي -24» فوق جبال التركمان في محافظة اللاذقية، والتي برّرتها أنقرة يومها بأنّها جاءت ضماناً لأمنها القومي بعد دخول هذه الطائرة للحظات الأجواء فأسقطتها قبل التثبت من هويتها. وهي عمليات تلت الاجتياح الواسع لمقاتلي «الدولة الاسلامية في العراق والشام» التي عُرفت بـ«داعش» للحدود السورية – العراقية منتصف حزيران 2014 واحتلال مناطق في شمال البلاد في 14 شهراً إلى ان وضع رجالهم في صيف العام 2015 أرجلهم في مياه المتوسط على شاطئ «السمرا» شمال اللاذقية على مسافة مئات الأمتار من الأراضي التركية.
ولذلك لم تقف العملية عند مجموعة التطورات الدراماتيكية المتسارعة، وقد برز في حينه التنسيق الروسي ـ التركي في إدارة العمليات الجوية والبرية في المناطق المحتلة وفق تصنيفهما للمناطق الساخنة. وفي مقابل الإعتراف بحق تركيا بإنشاء المنطقة العازلة على طول حدودها بين جرابلس وكوباني بطول 70 كيلومتراً وبعمق 40 كيلومتراً أكملت روسيا عمليتها لاستعادة ما فقده الجيش السوري من أراضٍ مترافقة مع تعزيز قاعدتها البحرية التاريخية في ميناء طرطوس وألحقتها بأسطولها البحري المنتشر في المياه الدولية قبالة الحدود السورية. كما عززت «قاعدة حميميم» الجوية التي تحولت مركزاً قيادياً قصده الرئيس الروسي اكثر من مرّة لعقد لقاءات انتهت بقرارات كبرى في شأن الأزمة السورية في اعتبارها ارضاً روسية.
ليس في ما سبق تأريخاً للأحداث السورية وما رافقها من جولات وصولات توزعت فيها السيطرة لفصائل المعارضة وقوات النظام قبل ان ينشئ الأميركيون قواعدهم في التنف عند مثلث الحدود السورية ـ العراقية ـ الاردنية وغرب مجرى نهر الفرات، إنما للإشارة إلى ما انتهت إليه هذه الأحداث ما بين عامي 2019 و2020 إيذاناً بولادة ما سُمّي «سوريا المفيدة» بكثافة سكانها ومدنها الرئيسية التي اقتصرت سيطرة الأسد عليها في موازاة بقاء السيطرة في مناطق أخرى للروس والأميركيين والاتراك، عدا عن «قوات سوريا الديمقراطية» الكردية المعروفة بـ«قسد» ومناطق البادية التي انتشرت فيها وحدات مشتتة من «داعش»، وتلك التي سيطر عليها «حزب الله» ما بين القصير والقلمون الشمالي والأوسط امتداداً إلى مقام السيدة زينب في ريف دمشق الغربي.
واللافت كان انّ الأسد اكتفى بما تحقق ولم يعط اي أهمية للمستجدات الناجمة عن مجموعة التفاهمات التي ولدت من خلاصات مؤتمرات مصالحة ومصارحة في بروكسل وفيينا وسوتشي وتُوّجت بما سُمّي تفاهمات «استانا» فتجاوزها جميعها ولم يعترف بأي منها. وقد يكون ارتكب خطأ كبيراً عندما تجاهل الدعوات لقبول الدستور السوري الجديد الذي جنّدت له موسكو قدرات روسية ودولية قبل ان تطرح عليه أكثر من صيغة للعودة إلى «الحضن العربي» في قمّة الرياض ومكافحة تجارة الكبتاغون إلى أن تُوجّت كلها بالسعي إلى فك تعاونه مع إيران وإقفال المعابر البرية أمام السلاح الذي يمكن ان يصل إلى «حزب الله» في لبنان.
عند هذه المحطة نُفّذت الأفكار السياسية والديبلوماسية وتعقّدت الحلول إلى ان اصبحت مستحيلة، وتقدّمت الخيارات العسكرية التي كانت التحضيرات في شأنها قد أُنجزت لتكون بديلاً من الحل السياسي والديبلوماسي، وتطورت الأمور بسرعة. وعلى رغم من التحذيرات التي تلقّاها الأسد من مخاطر العرقلة من دون أن يعيرها اي أهمية، سواء لرفضه مضمونها او عدم قدرته على تلبيتها، ومنها ابتعاده عن المحور الإيراني ووقف نقل الاسلحة إلى «حزب الله». والأخطر انّه لم يتفهّم ما جرى في غزة بعد القضاء على قدرات «حماس» ولا في لبنان لجهة تدمير قدرات الحزب واغتيال قادته عدا عن التفاهم على نزع سلاحه وجمعه من الأراضي اللبنانية ومصادرة مخازنه وتدمير مصانعها. على هذه الخفيات وما ترمز إليه من مستجدات، انطلقت عملية «ردّ العدوان» التي افتعلت أسباباً لم تكن لتدفع إلى اي عمل حربي.
وأُسقطت المدن السورية والعاصمة في أقل من 12 يوماً وكان ما كان أن انتقل الأسد إلى موسكو تاركاً معاونيه وكبار المسؤولين، الذين اضطروا إلى القيام بعملية التسليم والتسلّم بين ما تبقّى من قدرات الدولة ومؤسساتها، وما وضعت الثورة يدها عليه من تركيبة الدولة وآلت إلى القيادة الجديدة الموقتة بخطى متسارعة لمنع ما سُمّي الفوضى وإطلاق العملية السياسية في الداخل السوري بعد سلسلة من التدابير لطمأنة المكونات السورية الداخلية على تعددها، ودول الجوار السوري تجاه أي مخاطر يمكن ان تؤثر على لبنان او العراق، فكانت الرسائل التي وجّهها قائد مجموعات المعارضة المسلحة احمد الشرع (المعروف بأبي محمد الجولاني) الذي غيّر من شكله ولباسه ومظهره وخطابه بلغة إيجابية. عند هذه المؤشرات بدأت مظاهر «سوريا الجديدة» تظهر بالحفاظ على المؤسسات في عهدة الحكومة التي وضعت إمكاناتها، على لسان رئيسها، بتصرّف القوى التي سيطرت على المشهد السوري من مختلف وجوهه، إلى أن انتهى اللقاء الثلاثي بين الشرع ورئيس الوزراء في النظام المنحل محمد الجلالي، ومن سمّي رئيس حكومة الإنقاذ محمد البشير، إيذاناً بتشكيل الحكومة الجديدة التي ستتولّى السلطة في المرحلة الإنتقالية المقبلة.
عند هذه المحطات وفي انتظار فهم الهجمة الإسرائيلية التدميرية لقدرات الدولة السورية العسكرية السابقة، يبدأ العدّ العكسي لمجموعة من السيناريوهات المتوقعة التي على الجميع انتظارها لمعرفة ما سيُرسم لسوريا الجديدة وسط اعتقاد كثر بأنّ سوريا اليوم لربما استعادت وحدتها إن ضمّت أراضي الثورة إلى الدولة الجديدة، وهو أمر لا يمكن الحكم عليه مهما كانت الآمال المعقودة على المسار الجديد.