على مدى العقود الأربعة الماضية، خصّصت إيران أفضل عقولها العسكرية، ومليارات الدولارات، وأسلحة متطوّرة لمشروع كبير: مواجهة القوة الأميركية والإسرائيلية في الشرق الأوسط من خلال ما أطلقت عليه اسم «محوَر المقاومة».
هذا التحالف، المكوّن من جماعات مسلّحة أو حكومات متشابهة التفكير في 5 دول في الشرق الأوسط، سمح لإيران بإبراز قوّتها غرباً حتى البحر المتوسط وجنوباً إلى بحر العرب. لكن في وقت قصير للغاية، انهار إلى حدّ كبير.
أطاحت جماعات المعارضة السورية بالديكتاتور القديم للبلاد، بشار الأسد، في أقل من أسبوعَين، إذ قدّمت القوات الحكومية مقاومة ضئيلة. كما أُضعفت جماعة «حزب الله» اللبنانية المسلّحة والفصيل الفلسطيني «حماس» في غزة نتيجة أكثر من عام من الحرب مع إسرائيل.
لا تزال الميليشيات العراقية المرتبطة بإيران والحوثيّون في اليمن قائمين، لكنّهم يلعبون أدواراً ثانوية في هذا التحالف. وحتى لو كانت إيران تعتزم إعادة بناء هذا التحالف، فمن المحتمل أن يستغرق ذلك سنوات لإعادته إلى قوته السابقة.
واعتبر روبرت فورد، السفير الأميركي السابق لدى سوريا وزميل بارز في معهد الشرق الأوسط، وهو مركز أبحاث مقره واشنطن، أنّ «أهم تطوّر إقليمي هو هذه الخسارة الاستراتيجية الإيرانية»، في إشارة إلى الهزائم الجماعية التي تكبّدها حلفاء إيران.
كانت سوريا تحت حكم الأسد حاسمة للتحالف لأنّها وفّرت ممراً برياً لإيران لإمداد «حزب الله» في لبنان بالأسلحة والأموال. وقد سعت إسرائيل إلى قطع هذا الخط. وكان الدفاع عنه بالقدر عينه من الأهمية بالنسبة إلى إيران.
ومع الإطاحة بالأسد هذا الأسبوع وغموض القيادة المستقبلية لسوريا، ليس من الواضح ما إذا كانت إيران يمكنها الاحتفاظ بهذا المسار الاستراتيجي.
وأوضح فورد يوم السبت، قبل سقوط العاصمة السورية دمشق في أيدي المتمرّدين، أنّ «الإيرانيّين يتعرّضون إلى هزيمة استراتيجية كبيرة إذا تمّ استبدال حكومة الأسد بنوع آخر من الحكومة التي تتخذ موقفاً غير متعاون مع «حزب الله» اللبناني، لأنّ جسرهم البرّي إلى لبنان يُقطع، وهو ضربة كبيرة لأي أمل قد تكون إيران قد راودته في إعادة بناء «حزب الله» ببطء وثبات».
دعمت إيران الأسد لفترة طويلة، وقدّمت له دعماً عسكرياً لصَدّ معارضيه خلال الحرب الأهلية التي استمرّت 13 عاماً. لكنّ مستشارين وقادة من الحرس الثوري الإيراني القوي، العديد منهم عملوا أيضاً عن قرب مع «حزب الله»، بدأوا مغادرة سوريا يوم الجمعة.
ويرى محلّلون أنّ إيران أدركت أنّها لم تعُد قادرة على تقديم حَلّ عسكري للأسد، خصوصاً أنّ قواته بدت غير راغبة في القتال من أجله.
اختار المتمرّدون السوريّون لحظة مناسبة لشنّ هجومهم، حين كان حلفاء الأسد - إيران وروسيا و«حزب الله» - إمّا مستنزفة أو مشغولة بصراعات أخرى. بدأ هجوم المتمرّدين في 27 تشرين الثاني، بعد أيام قليلة من وقف إطلاق النار في الحرب بين إسرائيل و«حزب الله»، ممّا أجبر الأخير على الانسحاب من الحدود اللبنانية مع إسرائيل.
في بعض أركان لبنان، كان هناك توقّع بأنّ إيران ستساعد «حزب الله» بشكل أكبر خلال الحرب مع إسرائيل.
عندما تبادلت إسرائيل وإيران الضربات في نيسان ومرّة أخرى في تشرين الأول، أسقطت إسرائيل، بدعم من الولايات المتحدة، معظم صواريخ إيران. أمّا الصواريخ التي وصلت إلى إسرائيل فأحدثت أضراراً قليلة، في حين تمكّنت إسرائيل في هجماتها من اختراق الدفاعات الجوية الإيرانية بسهولة.
بمجمل الأحداث، أظهرت هذه التطوّرات أنّ إيران لديها قدرة محدودة على الدفاع عن نفسها وحلفائها، ممّا حطّم أي تصوّر لدى حلفاء طهران بأنّ إيران لا تُقهر.
تبدو إيران الآن وكأنّها تتخذ لهجة أكثر تصالحية، على الأقل في ما يتعلّق بسوريا. وأعلنت وزارة الخارجية الإيرانية يوم الأحد أنّ «مستقبل البلاد هو من مسؤولية السوريّين وحدهم»، ودعت إلى حوار وطني لتشكيل «حكومة شاملة»، بحسب وكالة «تسنيم» الإخبارية، المرتبطة بالحرس الثوري الإيراني.
لكن في هذا الأسبوع أيضاً، أكّد مراقبون دوليّون في الوكالة الدولية للطاقة الذرية التابعة للأمم المتحدة أنّ إيران سرّعت بشكل كبير تخصيب اليورانيوم إلى مستوى قريب من الاستخدام في الأسلحة.
تسارع انهيار تحالف إيران بشكل كبير خلال الأشهر الأخيرة. وتعرّضت «حماس»، التي حكمت غزة لفترة طويلة، إلى ضربات شديدة بعد أكثر من عام من الحرب التي بدأت بهجومها على إسرائيل في 7 تشرين الأول 2023. هناك أدلة متزايدة على أنّها تفقد قبضتها على أجزاء من الأراضي وتواجه صعوبة متزايدة في الحكم.
في نهاية تموز، اغتالت إسرائيل الزعيم السياسي لـ»حماس»، إسماعيل هنية، بينما كان يُقيم في دار ضيافة بطهران تحت مراقبة الحرس الثوري. وكان هناك لحضور تنصيب الرئيس الإيراني الجديد.
وفي منتصف أيلول، شلّت إسرائيل قدرة قادة «حزب الله» على التواصل من خلال تفجير أجهزتهم اللاسلكية وأجهزة النداء الآلي.
وفي نهاية أيلول، قتلت إسرائيل زعيم «حزب الله» القديم، حسن نصر الله، وهو استراتيجي عسكري وسياسي لعب دوراً مهمّاً في تطوير التحالف الإيراني الإقليمي.
تصاعد الصراع بين إسرائيل و«حزب الله» بسرعة في تشرين الأول. ودمّرت القوات الإسرائيلية معظم نظام الأنفاق والمخابئ المتطوّر التابع لـ»حزب الله» في جنوب لبنان خلال 6 أسابيع فقط من القتال المكثّف، وفقاً للمحلّلين.
وقدّر وزير الدفاع الإسرائيلي أنّ حوالي 80% من صواريخ «حزب الله» البالغ عددها 150 ألف صاروخ قد دُمِّرت. وكان ذلك أكبر ترسانة في العالم بأيدي جماعة مسلحة غير حكومية، بحسب محلّلي الأسلحة. وسيكون لإضعاف «حزب الله» تداعيات تتجاوز لبنان بكثير.
أرسل الحزب مقاتلين لدعم الأسد خلال الحرب الأهلية السورية، وساعد في تدريب جماعات أخرى تدعمها إيران، بما في ذلك مقاتلي الحوثي من اليمن.
وأوضحت حنين غدار، وهي محلّلة لبنانية تعمل الآن في معهد واشنطن، أنّ «حزب الله» كان يُعتبر قصة نجاح لإيران بسبب عامَي 2000 و2006»، في إشارة إلى الحروب السابقة للحزب مع إسرائيل. وخرج «حزب الله» أقل تضرّراً بعد تلك النزاعات.
وأضافت أنّ حسن نصر الله «أثبت نفسه كمرشد المقاومة للإيرانيّين، واستثمروا فيه كثيراً»، مشيرةً إلى أنّ «حزب الله» حصل على دعم إيراني أكبر بكثير من الحوثيّين أو الميليشيات العراقية.
الأثر الأوسع للهجوم الإسرائيلي على «حزب الله»، والذي يبدو أنّه أجبر الجماعة على استدعاء العديد من مقاتليها من سوريا، وفقاً لديبلوماسيّين ومحلّلين، كان إضعاف دفاعات الأسد.
كانت سوريا الحليف الأقرب لإيران في الشرق الأوسط. اعتمد الأسد على القادة والوحدات الإيرانية تحت سيطرة الحرس الثوري ومقاتلي «حزب الله» - الذين ساعدت دعمهم في بقائه لأكثر من عقد من الحرب الأهلية، حتى هذا الأسبوع.
لكن في السنوات القليلة الماضية، بينما بدت الصراعات في سوريا متوقفة، كانت قوات المعارضة تعدّ بهدوء تحدّياً جديداً للأسد. عندما اختارت الهجوم، تبيّن أنّ نظام الأسد كان نمراً من ورق.
بالإضافة إلى القوات الإيرانية و«حزب الله»، اعتمدت حكومته على الدعم الروسي، وخصوصاً القوة الجوية. لكنّ قوّاته العسكرية نفسها بدت وكأنّها تفتقر إلى الرغبة في القتال.
على رغم من هذه الخسائر المتراكمة، أوضح حسن أحمديان، أستاذ العلوم السياسية في جامعة طهران، أنّ التحالف قد خدم غرضه بالنسبة إلى إيران. الإيرانيّون اعتقدوا أنّه سيكون رادعاً لإسرائيل، وليس دفاعاً لا يمكن اختراقه.
وأضاف أنّ إيران «لطالما أدركت أنّها في معركة غير متكافئة مع إسرائيل، التي تمتلك ترسانة نووية وتدعمها أسلحة أميركية متطوّرة ودعم سياسي أميركي قوي. الإيرانيّون لا يتوفر لهم أي من ذلك. لكنّ الاستراتيجية كانت لتحقيق توازن مع تلك القدرات - الأسلحة النووية والدعم الأميركي - من خلال تحالف من الجماعات المسلّحة والحكومات ذات التفكير المماثل».
على رغم من أنّ إسرائيل يُعتقد على نطاق واسع أنّها تمتلك أسلحة نووية، إلّا أنّها لم تؤكّد ذلك رسمياً. وحذّر مراقبون قدامى لإيران من استبعادها تماماً.
وأكّد ريان كروكر، السفير الأميركي السابق لدى لبنان وسوريا والعراق، أنّ «حزب الله أُضعف بشكل كبير، ومن الواضح أنّ إيران ظهرت كقوة أضعف في مواجهتها المباشرة مع إسرائيل. لكنّ النجاح التكتيكي والعملياتي لا يُترجم بالضرورة إلى نصر استراتيجي».
وحذّر من أنّ «حزب الله» لم يُهزم بالكامل. وأضاف أنّ إيران من غير المرجّح أن تتراجع إلى حدودها بعد: «لا أعتقد أنّ إيران أو «حزب الله» يعتبران نفسَيهما مهزومَين هنا. وشيء واحد أظهرته إيران هو أنّها تمتلك القدرة على اللعب على المدى الطويل».