لا تزال إسرائيل تعتقد أنّ الحرب التي تشنّها على لبنان فرصتها المثالية للقضاء على «حزب الله»، وإخراجه من المعادلة نهائياً على المستوى العسكري، بحيث تشلّ قدرته على مواجهتها على نحو كبير، وتسحب منه ورقة المقاومة إلى غير رجعة، وكذلك على المستوى السياسي، بعدم تمكينه من المحافظة على دوره كرقم صعب في هذه المعادلة.
هذا الانطباع الذي اورده تقرير غربي استند واضعوه على المعطيات آلاتية:
أ- سياسة الأرض المحروقة التي اعتمدتها إسرائيل في عملياتها البرية التي استخدمت فيها الأسلحة الفتّاكة المحظّرة دولياً، وفي قصفها الجوي الذي أسقط البيوت على رؤوس أصحابها في الجنوب والضاحية الجنوبية، والبقاع والجبل وصولاً إلى الشمال، وتسويتها بالأرض.
ب ـ تعمّد قتل المدنيين، بذريعة وجود عنصر او أكثر من «حزب الله» بين صفوفهم.
ج- تدمير تام للبنى الاقتصادية والمجمعات التربوية، الصحية والمجمعات السكنية والتجارية والمصانع في المناطق المستهدفة.
د- تهجير عدد كبير من الشيعة إلى المناطق السنّية، الدرزية والمسيحية، بهدف تحويل وجودهم القسري فيها «عبئاً» على أبناء هذه المناطق، مما يسهل حصول اضطرابات ومواجهات قد تؤدي إلى نزاع اهلي، أو على الاقل إلى نفور يفرز حالة من عدم الاستقرار.
ه- تحريض البيئة الشيعية بغرض التهيئة لأرضية مهتزة، تسمح بتصاعد أصوات فيها تحمّل الحزب مسؤولية ما حلّ بالطائفة من نكبة، وإشغال الحزب في معالجتها، وتطويقه بحزام من التحدّيات التي تحتّم عليه التصدّي لها.
هذه المعطيات يدركها جيداً «حزب الله»، ويفقه ما تعنيه من أخطار رئيس المجلس النيابي نبيه بري، الذي يتولّى التفاوض مع الجانب الأميركي حول المقترح الذي تقدّم به. وفي يقين بعض المراقبين، أنّ ما يحصل على هذا الصعيد هو محاولة لفرض إملاءات وشروط لا يمكن لبنان القبول بها، لأنّها تمسّه في صميم سيادته، مما يبرّر لتل أبيب استمرار إعتداءاتها، وفي مقدّم أهدافها إرغام الحزب على الاستسلام وقبول ما تعتبره هي «هزيمة»، من خلال وثيقة محبّرة بدم المواطنين الذين قضوا في هذه الحرب الضروس. وفي التقرير الغربي، أنّ إسرائيل تستفيد إلى أبعد الحدود من عجز الأمم المتحدة عن التوصل إلى حل وفرض، والتأييد الأميركي والبريطاني لعملياتها، والصمت العربي والإسلامي والنتائج المتواضعة للقمة العربية ـ الإسلامية في الرياض، والانكفاء السوري بسبب الإنهاك الذي تعانيه دمشق، التي كانت الداعم الأساس عسكرياً ولوجستياً للمقاومة، وحذر إيران من مخططات إسرائيلية على جانب كبير من الخبث والخطورة ضدّ هجمات من الخارج، وعمليات مخابراتية في الداخل بواسطة خلايا نائمة.
وإزاء ما اورده هذا التقرير، ثمة من يرى أن لا مصلحة لإسرائيل في وقف الحرب، ولو انّها مُنيت بخسائر فادحة في أرواح جنودها، ومنشآتها المدنية والعسكرية، وذلك على قاعدة «فلننتهي من موضوع المقاومة دفعة واحدة ولمرّة أخيرة مهما تطّلب ذلك من أثمان». من هنا يصبح من الصعب المراهنة على « مرونة» من جانب الكيان العبري، إذا رفض لبنان الشروط السالبة لسيادته، وبالتالي، فإنّ إصرارها على «الحل الجذري» ينطبق مع نهجها الإبادي الذي تؤمن بجدواه في هذه الحرب. وانطلاقاً من ذلك، فلا يعود أمام «حزب الله» الّا أحد خيارين:
ـ متابعة المقاومة وتصعيدها من خلال الميدان، ومنع إسرائيل من تحقيق تقدّم ميداني ثابت على الارض.
ـ او الاستسلام وفق دفتر شروط تمليه تل أبيب بدعم من واشنطن. ولا يبدو أنّ الحزب في وارد رفع الراية البيضاء. خصوصاً إذا لم تصل نتيجة المساعي إلى الخواتيم التي ترجح تطبيق القرار الرقم 1701، من دون أي إضافة عليه وتحوير في آليات تنفيذه. ويشير التقرير الغربي إلى أنّ عدم التوصل إلى حل ينهي الحرب قبل تسلّم الرئيس الأميركي دونالد ترامب صلاحياته الدستورية في العشرين من الشهر المقبل، فإنّ حرباً إقليمية واسعة ستكون على الأبواب، والأخطار ستزداد مع اتساع رقعة الحرب. الرئيس نبيه بري كان واقعياً وواضحاً عندما وصف الحال كما هي، والتزم العمل على الوصول إلى حل لا يكون على حساب لبنان، بل يعزز السيادة الوطنية ويصونها. وهو يأمل في أن يجد مخرجاً يؤمّن الهدوء، ويؤسس لهدنة طويلة في انتظار أن تنضج التسويات الكبرى في المنطقة. والحقيقة أنّ فرنسا تتفرّد من دون سواها من الدول الغربية بالدعوة إلى وقف فوري لإطلاق النار من جانب إسرائيل، وتتهم الأخيرة بأنّها تجاوزت الحدود في حربها مع لبنان، وبلغت ما بعد بعد انتهاك القوانين والمواثيق والعهود الأممية والدولية. وحتى الساعة، وفي ضوء امتلاك «حزب الله» القدرة على المقاومة على إرسال الصواريخ إلى الداخل الاسرائيلي وتهديد أمنه، وعدم تمكن نتنياهو من إعادة النازحين الذين غادروا قراهم ومناطقهم في مستوطنات الشمال. هذه هي الصورة التي ترتسم في الأفق في انتظار عودة المبعوث الأميركي آموس هوكشتاين إلى بيروت وتل ابيب قريباً، لمتابعة ملف وقف النار والوصول به إلى نتائج حاسمة: إما التجاوب مع المساعي الدولية الجارية او المضي في الحرب، وفي حال ترجيح الخيار الثاني، فإنّ المواجهة ستتخذ منحى مختلفاً، وسيكون التعاطي الإيراني مع هذه التطورات مباشرة، ويستدل إلى ذلك من تحرك طهران الاخير تجاه بيروت ودمشق.
الأيام المقبلة ستكون حاسمة، وستحدّد بوصلة المعركة، والاحتمالات مفتوحة على كل الخيارات.