لم ينجح رهان الإيرانيين على فوز هاريس، لكي يستكملوا مفاوضاتهم السرّية مع الإدارة الأميركية على مستوى الخبراء والأمنيين في عُمان. وهكذا، هم سيتجرَّعون «الكأس المُرَّة»، وليس لهم إلّا التعاطي مع إدارة دونالد ترامب بواقعية.
يوحي المحيطون بترامب أنّه يريد الوفاء فعلاً بالوعود التي قطعها خلال حملته الانتخابية. فهو سينهي الحروب الدائرة حالياً في أوكرانيا والشرق الأوسط، ويتجنّب اندلاع حروب أخرى.
ويقول ترامب، وهو صاحب كتاب «فن الصفقة»، إنّ شغفه الحقيقي ليس تفجير النزاعات التي تعمّم الخسائر في كل مكان، بل «تركيب» معادلات سياسية واقتصادية رابحة للجميع. وهو بارع في إيجاد هذه التركيبات وابتكار الترتيبات الكفيلة بنجاحها. ومن هذا المنطلق، هو اتخذ قراراته «الجريئة» في الشرق الأوسط، خلال ولايته السابقة.
العارفون بفلسفة ترامب البراغماتية، المؤسَّسة على المفاهيم الليبرالية الأميركية التقليدية، والمبنية خصوصاً على حرّية السوق والاقتصاد، يشرحون الترابط القوي بين الاتجاهات الثلاثة التي عمل عليها في الشرق الأوسط خلال ولايته الأولى، وهي:
1- إضعاف نفوذ إيران وحصره ضمن حدودها الجغرافية، أي تعطيل أجنحتها الذين بسببهم تمكنت من الوصول إلى حدود إسرائيل وتهديدها، وبلوغ البحر الأبيض المتوسط وتهديد الغرب الأوروبي. وهذا يعني أولاً منع طهران من مواصلة تطوير قدراتها النووية، وثانياً القضاء على التنظيمات الحليفة بعد قطع جسور التواصل في ما بينها وبين إيران.
2- بعد تطمين إسرائيل إلى زوال التهديد الإيراني، إغراؤها ببعض الخطوات التي تعتبرها استراتيجية، سواء في الملف الفلسطيني كنقل السفارة الأميركية إلى القدس، أو في ملف الأراضي المحتلة كالاعتراف بضمّ الجولان السوري. وعلى الأرجح، ستكون الفرصة متاحة لترامب لكي يقدّم للإسرائيليين إغراءات جديدة في الملف الفلسطيني، نتيجة الضربة القوية التي تلقتها «حماس» في غزة وانتقال الشرارة إلى الضفة الغربية.
3- تشجيع مزيد من العرب على الدخول في «المسار الإبراهيمي»، أي التطبيع مع إسرائيل. والمملكة العربية السعودية، بما لها من رمزية عربية وإسلامية، هي الهدف الأول في الجولة المقبلة من هذا المسار. وسيحاول ترامب إيجاد الصيغة السحرية التي تلبّي شرطها بأن يكون التطبيع مبنياً على أساس الاعتراف بـ«حل الدولتين».
هذه الاتجاهات الثلاثة، وفق رؤية ترامب، تلتقي عند نقطة واحدة هي: «الصفقة»، أي خلق شرق أوسط جديد مبني على التعاون الذي يخدم مصالح الجميع، بدل المواجهات والحروب. وفي ظل هذه الصيغة، تحصل الولايات المتحدة على موقعها المميز بكل الأبعاد الاستراتيجية، لكونها راعية الصفقة.
إذاً، يريد ترامب أن «يتفرّغ» للعبته المفضّلة، أي ترتيب الصفقة. لكن ذلك لن يكون متاحاً له لدى وصوله إلى البيت الأبيض في 20 كانون الثاني، إذا استمرت الحرب في غزة والضفة ولبنان، وبقي الانفجار ممكناً في أي لحظة مع إيران. وفي الواقع، هو يريد أن تبلغ الحروب نهاياتها وأن تحقق أهدافها في أقرب ما يمكن، ليأتي إلى السلطة في ظل ظروف ناضجة.
يعني ذلك أنّ من مصلحة ترامب وصول بنيامين نتنياهو خلال الأسابيع المقبلة إلى مرحلة يشعر فيها بأنّه استنفد أهدافه من الحروب الدائرة اليوم، وبأنّ طهران لم تعد تشكّل تهديداً لإسرائيل، بحيث يصبح مستعداً لدخول المسار السياسي. وثمة من يعتقد أنّ نتنياهو نفسه سيعمل على دفع الحروب نحو الحسم، في مدى زمني قريب، لإنضاج الثمار السياسية والاقتصادية والأمنية عند وصول ترامب.
يعني ذلك أنّ الأشهر القليلة المقبلة، وخصوصاً المرحلة الفاصلة عن 20 كانون الثاني، ستشهد تصعيداً استثنائياً في حروب غزة والضفة ولبنان لإضعاف القوى التي تقاتل إسرائيل، وعلى رأسها إيران وضرب قدراتها النووية.
وسيحاول نتنياهو الاستفادة من الوجود الضعيف لإدارة جو بايدن الديموقراطية، في أسابيعها الأخيرة، مهزومةً أمام ترامب الديناميكي والعائد قوياً، والذي بدأ يفرض إيقاعه على قرارات البيت الأبيض.
وبايدن الذي بقي يقدّم الدعم المطلق لنتنياهو في حروبه منذ 13 شهراً، سيكون أكثر طواعية له في الفترة الانتقالية، وسيحاول ترميم صورته كرئيس مهزوم بالاستجابة أكثر إلى ما يريده الحليف الإسرائيلي، سواء في غزة والضفة أو في لبنان أو في إيران، حيث قد ينجح تحريض نتنياهو في دفع الولايات المتحدة إلى المشاركة الفعلية في تسديد ضربة حاسمة إلى النظام، لا توفر المنشآت النووية.
ثمة من يخشى أن يضغط ترامب بكل قوته على الإدارة الحالية لإدخالها في هذه المغامرة، بحيث تبلغ خواتيمها قبل موعد تسلّمه السلطة. وبذلك، يأتي هو «على النظيف» ويتفرّغ للصفقات السياسية، فيثبت أنّه كان صادقاً في الوعود التي أطلقها.