هل يصمد القطاع الزراعي... أم تقطع الحرب نَفَسه الأخير؟
هل يصمد القطاع الزراعي... أم تقطع الحرب نَفَسه الأخير؟
البروفيسور ندى الملّاح البستانيّ

بروفيسور في جامعة القدّيس يوسف ببيروت، رئيسة مؤسِّسة لجمعيّة التميّز للأبحاث المبتكرة والاستدامة والتنمية الاقتصاديّة "AXISSED"

Wednesday, 30-Oct-2024 10:08

إنّ الآثار المترتبة على الزراعة والأمن الغذائي في لبنان تبعث على القلق، خصوصاً في ظلّ مواجهته تصعيداً جديداً للعنف في جنوبه ومنطقة البقاع. فالقطاع الزراعي، الذي أضعفته بالفعل سنوات الأزمة الاقتصادية وعدم الاستقرار السياسي، أصبح الآن على حافة الانهيار. إذ يعاني هذا القطاع الحيوي للإمدادات الغذائية من مجموعة من العوامل المدمّرة، منها: إنعدام الأمن الذي يحول دون الوصول إلى الأراضي الزراعية، وتدهور البنية التحتيّة، وتفاقم عجز المزارعين حيال الحفاظ على الإنتاج بسبب الأزمة الاقتصادية.

عموماً، يزرع لبنان، الذي كان مركزاً مزدهراً للإنتاج الزراعي، مجموعة واسعة من المحاصيل تندرج في 5 فئات رئيسية، هي: الحبوب، الفاكهة، الزيتون، المحاصيل الصناعية (مثل الشمندر السكّري والتبغ)، وأخيراً الخضروات. ومن بين هذه المحاصيل، تؤدّي منطقة البقاع وجنوب لبنان دوراً رئيسياً هاماً. فتُعدّ منطقة البقاع، التي تمثل 42% من إجمالي الأراضي المزروعة في البلاد، مخزن الحبوب الزراعي الأساسي في لبنان. كما أنّها تضمّ 62% من إجمالي المساحة المستخدمة في المحاصيل الصناعية، و57% من إجمالي المساحة المستخدمة في إنتاج الحبوب، ممّا يجعلها محوراً أساسياً للأمن الغذائي الوطني.

 

على الرغم من أنّ جنوب لبنان أقلّ مساحة من حيث الأراضي المزروعة من البقاع، إلّا أنّه مهمّ لإنتاج الزيتون، الفواكه والخضروات. وتمثّل بساتين الزيتون بشكل خاص مورداً اقتصادياً رئيسياً للعديد من الأسر في هذه المنطقة.

 

لكن، مع تصاعد العنف، أصبح من غير الممكن الآن الوصول إلى هذه الأراضي، ممّا يمنع حصاد المحاصيل ونقل المنتجات إلى مناطق أخرى، الأمر الذي يفاقم أزمة الغذاء المستمرة بالفعل.

 

في عرض المشهد الزراعي اللبناني في العقد الأخير، تواجه الزراعة اللبنانية سلسلة من الأزمات التي أدّت إلى تآكل قدرتها على إطعام السكان. إذ أدّت الحرب الأهلية السورية، التي بدأت في العام 2011، إلى تدفّق أكثر من 1,5 مليون لاجئ سوري، ممّا شكّل ضغطاً هائلاً على طلب المنتجات الغذائية. وفي مواجهة هذا الضغط، اتجه العديد من اللبنانيّين إلى الزراعة، ولا سيما في البقاع، حيث استثمروا في البيوت البلاستيكية الزراعية لإنتاج الخضروات والبطاطا.

 

وقد مكّن هذا الارتفاع في نتاج بيوت البلاستيكية الزراعية من زيادة الزراعة المكثّفة لتلبية هذا الطلب المتزايد. وقد وفّر ذلك فرص دخل إضافية ومكّن من استيعاب العمالة السورية اللاجئة. وعلى الرغم من الافتقار إلى تخطيط طويل الأجل، ورؤية سياسية واضحة، أثبت القطاع الزراعي في لبنان قدرته على الصمود، ولو على «مضض».

 

بعدها، تعرّض الإنتاج الزراعي، على غرار باقي الاستثمارات في البلد، إلى ضربة قاضية. إذ أدّت الأزمة الاقتصادية، وانهيار القطاع المصرفي اللبناني إلى تغيير الوضع بوجهٍ جذري.

 

فمنذ منتصف تسعينيات القرن الماضي، اعتمدت الزراعة اللبنانية بشكل كبير على الواردات من المستلزمات الزراعية مثل البذور، الأسمدة، المبيدات وأنظمة الري. وقد مكّن هذا النموذج المزارعين من تمويلها عن طريق سياسة دعم نقدية قائمة على ربط سعر صرف الليرة اللبنانية، وخطوط الائتمان التي تقدّمها المصارف.

 

مع ذلك، تسبّب انهيار القطاع المصرفيّ في العام 2019 في انهيار هذا النموذج. إذ لم يَعُد بإمكان مورّدي المستلزمات الزراعية الحصول على الائتمان، وارتفعت أسعار البذور والأسمدة بسبب انهيار العملة، فيجد المزارعون أنفسهم الآن غير قادرين على تمويل احتياجاتهم الأساسية.

 

لذلك، يعرّض هذا الخلل المالي الإنتاج الزراعي المحلي إلى الخطر، ويزيد من اعتماد لبنان على الواردات الغذائية في وقت تزداد فيه ندرة العملة الأجنبية.

 

عموماً، تمكّن القطاع الزراعي على «مضض» من التخفيف من الأثر الأولي للأزمة المالية، إذ إنّ ارتفاع الأسعار عوّض جزئياً عن زيادة تكاليف الإنتاج في القطاع.

 

في العودة إلى الحرب المستعرة اليوم، يمرّ لبنان حالياً بفترة من التوتر العسكري في جنوبه وبقاعه، وهي أقاليم استراتيجية للزراعة في البلاد. وتؤثّر الحرب تأثيراً مدمّراً ليس فقط على البنية التحتية، بل على الإنتاج الزراعي وسبل عيش المزارعين والأمن الغذائي في البلاد. فالوضع الحالي يعرقل بشكل خطير الدورة الزراعية في هذه المناطق، ولا سيما تلك التي تُزرَع فيها نسبة كبيرة من محاصيل البلاد.

 

كما لم يَعُد بإمكان المزارعين الوصول إلى أراضيهم لحصاد محاصيلهم، كما أنّ انعدام الأمن على نطاق واسع في هذه المناطق يعقّد نقل المنتجات الزراعية إلى الأسواق. وغالباً ما تكون الطرقات مقطوعة، كما أنّ العديد من الحقول، على الرغم من أنّها لم تدمّر بشكل مباشر بسبب الاقتتال، إلّا أنّها تُركِت في حالة سيئة بسبب عدم توفّر اليد العاملة اللازمة للعمل فيها. بالإضافة إلى ذلك، يعاني جنوب لبنان، المنتج الأكبر للزيتون في البلاد، من الدمار الذي لحق ببنيته التحتية، ممّا يجعل من المستحيل تصدير الزيتون والزيت إلى مناطق أُخرى أو إلى الخارج.

 

أمّا في المقلب الحكومي، فنجد أنّ استراتيجياته شبه مشلولة، ففي مواجهة هذه الأزمة متعدّدة العوامل، كانت استجابة الحكومة اللبنانية غير كافية إلى حدٍّ كبير. إذ تميل إلى وضع استراتيجيات موجّهة نحو المانحين الذين يختارون في نهاية المطاف الخيارات التي يفضّلون تمويلها.

 

مع ذلك، يتطلّب القطاع الزراعي في لبنان استراتيجية متماسكة على المستوى الوطني للإصلاح التشريعي، والمؤسساتي على نطاق مماثل لتلك التي اتبعتها إدارة الرئيس فؤاد شهاب في الستينيات.

 

وعلى الرغم من أنّ وزارة الزراعة وضعت سابقاً خطة خمسية تتضمّن لأوّل مرّة ركيزة مخصّصة للأمن الغذائي، إلّا أنّها لا تزال تعاني من نقص في التمويل، وتعتمد بشكل كبير على المانحين الدوليّين. فيحتاج القطاع الزراعي في لبنان إلى إصلاحات هيكلية بعيدة المدى، تتجاوز الحلول الموقتة أو الاستراتيجيات التي يمليها المانحون.

 

فالمزارعون الذين يشكّلون نسبة كبيرة من سكان الريف اللبناني يجدون أنفسهم محاصرين بين حكومة فاشلة وحالة حرب لا تُظهِر أيّ علامة على التراجع.

 

كما أنّ الافتقار إلى الدعم المؤسساتي المستدام لا يهدّد الإنتاج الزراعي فحسب، بل يهدّد بقاء المجتمعات الريفية التي تعتمد على هذا النشاط في كسب عيشها.

 

هكذا بات اليوم مستقبل الزراعة في لبنان أكثر غموضاً ممّا مضى، وقد تكون عواقبه شديدة على الأمن الغذائيّ والأسواق الزراعيّة. فقد أدّت الصعوبات في نقل المنتجات الزراعية إلى المناطق النائية والمراكز الحضرية إلى اضطرابات كبيرة في الأسواق المحلية. وارتفعت أسعار المنتجات الزراعية، ويرجع ذلك جزئياً إلى ندرة المنتجات، لكن أيضاً بسبب تكاليف النقل التي ارتفعت بشكل كبير نتيجة الحرب، والخطر المتزايد لدى المزارعين من ضراوتها.

 

ويمثّل فقدان المحاصيل، والأهم من ذلك، سلامة تلك التي تمّ حصدها بعد تعرّضها إلى مواد سامة بسبب كثافة الضربات العسكرية، أو عدم القدرة على إيصال المنتجات إلى الأسواق تهديداً مباشراً للأمن الغذائي في البلاد. إذ تُعدّ المحاصيل مثل الحبوب، التي يُزرع معظمها في البقاع، ضرورية للإمدادات الغذائية للبنانيّين. بالتالي، فإنّ الاضطرابات في الإنتاج، والنقل تهدّد الاستقرار الغذائي، ولا سيما في بلد يواجه بالفعل أزمة اقتصادية واجتماعية عميقة.

 

في الختام، فإنّ القطاع الزراعي اللبناني، الذي لطالما اعتُبر شريان الحياة الضامن للاستقرار الاجتماعي والاقتصادي في البلاد، أصبح الآن في «تصلّب حاد». فقد أدّت الحرب على بقاع لبنان كافّة، بالإضافة إلى الأزمة الاقتصادية وانهيار المؤسسات المالية، إلى تدهور ملحوظ في قطاع أظهر قدرته على التكيّف في أوقات الضيق.

 

وإذا لم تُتّخذ بعض الإجراءات السريعة لدعم المزارعين وضمان الحصول على المدخلات وإصلاح السياسات الزراعية بشكل شامل، فقد يواجه لبنان أزمة غذائية أكثر خطورة، مع ما يترتب على ذلك من تداعيات كارثية على جميع سكّانه «ومش ناقصنا بعد».

 

وكما تمّت التوصية بذلك في أثناء الأزمة اللبنانية، فقد تفاعلت الطبقة السياسية وجزء من المجتمع المدني مع الأزمة عن طريق «تمجيد» الزراعة والعودة إلى الأرض، ووضع العبء على المواطنين لضمان أمنهم الغذائي. إنّ هذا المثل الأعلى للاكتفاء الذاتي ليس فقط غير واقعي، بل ضار، وضرب من الجنون، لأنّه يرفع المسؤولية عن الدولة.

 

اليوم، نرى أنّ لبنان يواجه خطر انزلاق فئة مهمّة أخرى من السكان إلى الفقر المدقع، وفي الوقت نفسه يخسر قطاعاً من الأراضي التي أثبتت قدرتها على توفير العمل، والمساهمة في تعزيز السلم الأهلي. أم أنّ المشهد الحالي سيأتي على «الأخضر واليابس» ويقطع «الوريد الزراعي»، إذ أمسى في العناية المشدّدة منتظراً من ينقذه، بعدما أنقذ الوضع مراراً وتكراراً بتكيّفه وتعافيه؟

theme::common.loader_icon