خسارة سوق النبطية التاريخي: وداعٌ مؤثّر لمَعلم عريق
خسارة سوق النبطية التاريخي: وداعٌ مؤثّر لمَعلم عريق
Tuesday, 15-Oct-2024 05:33

في قلب مدينة النبطية الهادئة، جنوب لبنان، كان سوق النبطية رمزاً للتجارة والتراث، يُجسِّد تاريخاً عريقاً يعود لأكثر من قرن. أُنشئ في عام 1910 في عهد الدولة العثمانية، وكان السوق أكثر من مجرّد مكان لبيع وشراء السلع؛ إنّما كان ملتقى للأجيال، يربط بين الماضي والحاضر، ومكاناً تتلاقى فيه الثقافات والأعراق. لكن في ليلة 12 تشرين الأول 2024، تعرّض السوق إلى تدميرٍ كبير نتيجة للغارات الجوية الإسرائيلية، ما أدّى إلى خسارة فادحة لا تقتصر على المباني والمنتجات، بل تمتدّ إلى عمق الهوية الثقافية اللبنانية.

سوق النبطية: تراث حي ووحدة اجتماعية

السوق الشعبي في النبطية كان ملتقىً للمزارعين والحرفيِّين والتجار من مختلف المناطق اللبنانية مثل صيدا، صور، وجزين. كل يوم اثنين، كان السوق يكتظ بالنشاط، فيجتمع سكان الجنوب لبيع وشراء المنتجات الزراعية والحِرَف اليدوية وغيرها من السلع الضرورية. كان السوق يُشكّل جزءاً لا يتجزّأ من الهوية الاجتماعية والثقافية للمدينة وأهلها، عاكساً البساطة والروح الجماعية.

 

ما يُميِّز هذا السوق ليس فقط نشاطه التجاري، بل أيضاً جماله المعماري. المباني القديمة بواجهاتها ذات الطراز العثماني كانت شاهداً على تاريخ طويل من الصمود والتطوّر. كانت الأزقة الملتوية والمحال التجارية الصغيرة تُضفي على السوق طابعاً خاصاً، وتجعل منه مكاناً يلتقي فيه الناس، يتبادلون القصص والأخبار، ويتشاركون اللحظات.

 

الضربة المدمّرة

في تلك الليلة المشؤومة من 12 تشرين الأول، دمّرت الغارات الجوية الإسرائيلية جزءاً كبيراً من سوق النبطية. أصيب السوق بأضرار جسيمة، فاشتعلت النيران في 12 مبنى سكنياً و40 محلاً تجارياً. وأسفرت الغارات عن مقتل شخص واحد وإصابة 4 آخرين، فيما كان الدفاع المدني اللبناني يكافح لإخماد الحرائق. بدوره، كان الصليب الأحمر اللبناني يقوم بجهود جبارة للبحث عن ناجين تحت الأنقاض.

 

لم تقتصر الأضرار التي لحقت بالسوق، على المباني والمحلات التجارية؛ بل دُمِّرت العديد من المعالم التاريخية الأخرى في المنطقة، مثل الخان العثماني القديم والفندق الأقدم في المدينة، الذي كان يستقبل المسافرين والتجار على مَرّ العقود. كان السوق ملاذاً آمناً للنازحين من مناطق أخرى في جنوب لبنان، ممّا زاد من وقع الكارثة الإنسانية على السكان.

 

انتهاك للقانون الدولي والهوية الثقافية

تدمير سوق النبطية لم يُثِر الغضب فقط بسبب خسارة معلم تاريخي، بل أيضاً لأنّه يمثّل انتهاكاً صارخاً للقوانين الدولية. وفقاً لاتفاقية لاهاي عام 1954 لحماية الممتلكات الثقافية في النزاعات المسلحة، يُعّدَ استهداف المواقع التراثية والمدنية جريمة حرب. لم يكن السوق هدفاً عسكرياً بأي حال من الأحوال، وعلى الرغم من ذلك، تعرّض إلى التدمير، ممّا يعكس تجاهلاً واضحاً للقانون الدولي ولحقوق الشعب اللبناني في الحفاظ على تراثه.

 

كتبت الكاتبة اللبنانية بديعة فحص تعليقاً مؤثّراً على ما حدث، قائلةً: «احترق قلبنا، وليس مجرّد ساحة من الأسمنت». هذه الكلمات تُعبِّر بعمق عن الألم الذي يشعر به أهالي النبطية. فالسوق لم يكن مجرّد مبنى، بل كان رمزاً للصمود وللحياة الاجتماعية والثقافية للمدينة. وفقدانه يُشكّل جرحاً عميقاً يصعب ترميمه.

 

سوق النبطية عبر الزمن: معلم تاريخي متجدّد

للسوق تاريخ طويل من الصمود أمام التحدّيات. في عام 1978، تعرّض إلى اعتداءات إسرائيلية خلال الاجتياح الإسرائيلي، وتكرّر الاعتداء في عام 1982 وفي العدوان الإسرائيلي على لبنان عام 2006. وعلى الرغم من ذلك، كان السوق دائماً ينهض من جديد، محتفظاً بجزء كبير من هويته الثقافية والمعمارية.

 

لكنّ الغارات الأخيرة في عام 2024 كانت الأكثر تدميراً على الإطلاق، إذ سُوِّيَ جزء كبير من السوق بالأرض، ممّا جعل من الصعب إعادة بنائه بالهوية التاريخية عينها.

 

يشير الباحث التاريخي علي مزرعاني إلى أنّ السوق لم يكن مجرّد مكان للبيع والشراء، بل كان مركزاً اجتماعياً وثقافياً يجمع الناس من مختلف الفئات. كان يضمّ مكتبات، مقاهي، ومتاجر تعود لأكثر من نصف قرن. السوق كان شاهداً على تظاهرات ومسيرات عاشوراء، وكان منصة للخطباء الذين يخاطبون الجماهير من شرفات المباني التاريخية. هذه الذكريات تجعل من فقدان السوق أكثر من مجرّد خسارة مادية، بل خسارة لهوية المدينة نفسها.

 

دعوة لحماية التراث الثقافي

الخسارة الفادحة التي لحقت بسوق النبطية يجب أن تكون جرس إنذار للعالم بأسره حول ضرورة حماية التراث الثقافي خلال النزاعات. والهجوم على المواقع التراثية لا يعدّ انتهاكاً للقوانين الدولية فحسب، بل هو اعتداء على الذاكرة الجماعية والهوية الثقافية للشعوب. هذه المعالم تمثّل جزءاً من تاريخ الشعوب وثقافتها، وفقدانها يعني ضياع جزء لا يُعوَّض من هذا التراث.

 

اليوم، يقف لبنان أمام خسارة كبيرة، ليس فقط في الأرواح والممتلكات، بل في جزء من تاريخه وثقافته. يجب أن يكون هناك تحرّك دولي لحماية المواقع التراثية والمدنية من مثل هذه الاعتداءات، والعمل على توثيق هذه المواقع وترميمها كلّما أمكن.

 

التراث المقاوم

أحد الجوانب الملفتة للنظر في تاريخ سوق النبطية هو قدرته على الصمود والتجدد على الرغم من كل الصعوبات. منذ نشأته، كان السوق مركزاً للحياة الاجتماعية والثقافية، حيث تلتقي الأجيال لتبادل المنتجات والأفكار. هذا التراث الحَيّ لم يكن مجرّد تجارة، بل كان يعكس ثقافة مدينة بأكملها، تُعبِّر عن قِيَمها وهُويّتها.

 

من بين المعالم التي تعرّضت إلى الدمار، كان هناك محلّات تعود إلى أكثر من 100 عام، مثل مكتبة محمود حجازي وحلويات بدر الدين. هذه المحلات كانت جزءاً من ذاكرة المدينة، حيث تربّت أجيال على طعم الحلويات القديمة وعبق الكتب التي كان يشتريها الآباء لأبنائهم. فقدان هذه المعالم يمثل فقداناً للتاريخ، للذاكرة، وللأجيال القادمة التي لن تتمكن من الاستفادة من هذا التراث كما كان في الماضي.

 

التدمير المتعمّد

تدمير سوق النبطية ليس حادثة عابرة في سياق الحرب. وفقاً لشهادات العديد من السكان المحليِّين، يبدو أنّ السوق كان مستهدفاً بشكل مباشر. ويشير الصحافي كمال جابر، الذي قضى سنوات يوثّق تاريخ المدينة، إلى أنّ الدمار كان شاملاً إلى درجة تجعل من إعادة بناء السوق بشكله الأصلي أمراً مستحيلاً. كان السوق رمزاً لصمود المدينة ولترابط سكانها، واستهدافه يعكس رغبة في القضاء على هذا التراث.

 

إسرائيل لم تستهدف فقط سوق النبطية، بل أيضاً معالم تاريخية أخرى في الجنوب اللبناني، مثل شجرة المعولة في بلدة ميفدون، التي يعود عمرها إلى مئات السنين. هذه الشجرة، التي كانت شاهدة على تاريخ المنطقة، تعرّضت إلى القصف عدة مرات، لكنّها ظلّت صامدة. هذا التدمير الممنهج للمعالم الثقافية والتاريخية يعكس محاولة لطمس هوية الشعب اللبناني ومحو ذاكرته التاريخية.

 

مستقبل سوق النبطية

بعد الدمار الكبير الذي لحق بسوق النبطية، يتساءل كثيرون عن مستقبل هذا المعلم التاريخي. هل سيتمكن السكان من إعادة بنائه؟ وهل سيحتفظ السوق بطابعه التاريخي إذا ما رُمِّمَ؟ هذه الأسئلة تطرح نفسها بقوة في ظل التحدّيات التي تواجه لبنان اليوم. يجب أن يكون هناك دعم دولي لإعادة بناء سوق النبطية والمحافظة على هويته الثقافية. لأنّ السوق لم يكن مجرد مكان للتجارة، بل كان رمزاً للهوية اللبنانية ولصمود الشعب أمام كل الصعوبات. فإعادة بناء السوق يجب أن تكون جزءاً من عملية أوسع لحماية التراث الثقافي في لبنان، وضمان أن تبقى هذه المعالم شاهدة على تاريخ البلاد وأهلها.

 

في النهاية، إنّ تدمير سوق النبطية ليس مجرّد خسارة لمكان، بل هو جرح في قلب الثقافة اللبنانية.

theme::common.loader_icon