سيّد اللعبة -هنري كيسنجر وفن دبلوماسية الشرق الأوسط، بقلم مارتن إنديك.
الدبلوماسيّون غالباً ما يكونون أبطال التاريخ. إنّهم يمشون على حواف ساحات المعارك ويُقنعون المتحاربين بإلقاء أسلحتهم، محوّلين السيوف إلى محاريث. في مطلع القرن التاسع عشر، تفاوض الأمير مترنيخ من النمسا على قرن من السلام بين الممالك الأوروبية التي كانت تحارب بعضها البعض بلا توقف لمدة مئة عام. كان نموذجاً للدبلوماسي في عصره، والإلهام لكثير من المتابعين، بما في ذلك مستشار الأمن القومي الأميركي ووزير الخارجية هنري كيسنجر.
يضع كتاب مارتن إنديك كيسنجر في مصاف مترنيخ وغيره من «سادة اللعبة». ليس هو الأوّل الذي يفعل ذلك. فقد قدّم كيسنجر هذا التصوّر عن نفسه في سيل من الكتب الكبيرة والثقيلة، وأبرزها مذكراته التي تزيد عن 3000 صفحة، والتي نُشرت في ثلاثة مجلدات. من بين رجال الدولة الحديثين، فقط ونستون تشرشل كتب أكثر منه للترويج لنفسه.
أقوى حالة لصالح بطولة كيسنجر توجد في دبلوماسيّته في الشرق الأوسط، التي يسردها إنديك بالتفصيل المذهل في كتابه «سيّد اللعبة». كان كيسنجر، الذي كان يعمل كوكيل للسياسة الخارجية للرئيس ريتشارد نيكسون، قد حوّل سلسلة من الكوارث إلى فرص لإعادة تشكيل المنطقة. بعدما هاجم تحالف من الدول العربية وكاد يدمّر إسرائيل خلال يوم كيبور عام 1973، أدار كيسنجر عملية إمداد طارئة للقوات العسكرية الإسرائيلية من قبل الولايات المتحدة. وعندما قلب الجيش الإسرائيلي الموازين ودخل الأراضي المصرية والسورية، غاص كيسنجر في المأساة للتفاوض على إنهاء النزاع.
أمضى كيسنجر الجزء الأكبر من ثلاث سنوات في اجتماعات ماراثونية مع قادة إسرائيل ومصر وسوريا، التي غالباً ما تحوّلت إلى نقاشات حادة وجلسات مساومة طويلة. اكتسب كيسنجر سيطرة على التفاصيل الدقيقة المتعلّقة بالحدود والمستوطنات، في الوقت الذي كان يهدّد نظراءه ويكسب ثقتهم في آن واحد. فعل كل هذا أثناء تنقّله بين عواصمهم وإدارة مجموعة من الأزمات الأخرى في السياسة الخارجية في فيتنام، تشيلي، جنوب إفريقيا وغيرها من النقاط الساخنة في الحرب الباردة. كان يقدّم تقاريره لرئيس متقلّب ومدمّر لذاته، كان يغرق في الاكتئاب أثناء تحقيقات ووترغيت. كان خليفة نيكسون، جيرالد فورد، قليل المعرفة أو الخبرة بالمنطقة. غالباً ما كان كيسنجر يضع السياسة ويشرحها للرئيس لاحقاً.
رغم كل التحدّيات، بنى كيسنجر نظاماً سياسياً جديداً في الشرق الأوسط. كانت أعمدة بناءه هي الأطراف الرئيسية في حرب 1973 - إسرائيل، مصر وسوريا - التي دفعها كيسنجر إلى مجموعة من الاتفاقات التي فكّكت جيوشهم المتشدّدة وأقامت حدوداً مستقرة. لم يتفاوض كيسنجر على اتفاقية سلام شاملة، بل على مجموعة من التفاهمات التي سمحت لقادة كل دولة بالشعور بالأمان من الهجمات المستقبلية. أزالت وساطة كيسنجر الاتحاد السوفيتي كقوة مؤثرة في المنطقة، وجعلت الولايات المتحدة مصدراً سخياً للمساعدات العسكرية والاقتصادية لإسرائيل ومصر، اللتين لا تزالان تستفيدان من كرم أميركا اليوم.
في سرده للعديد من التقلّبات والمنعطفات في دبلوماسية كيسنجر المذهلة، يعبّر مارتن إنديك عن إعجابه الشديد بالرجل. يعلّق باستمرار على مخزون كيسنجر الذي لا ينضب من الطاقة، وإصراره العنيد، وقدرته العجيبة على سحر الأشخاص ذوي النفوذ. جمع وزير الخارجية الأميركي الذكاء مع الدهاء، كما لم يفعل سوى قلّة قبله أو بعده.
عندما يحلّل إنديك العقبات التي تغلّب عليها كيسنجر، فإنّه يعلم عن ماذا يتحدّث. فبعد عقود من مغادرة كيسنجر وزارة الخارجية، تعامل المؤلّف مع قضايا مماثلة كسفير أميركي في إسرائيل ومبعوث رئاسي خاص. يستند كتابه إلى خبراته الخاصة وكذلك إلى بحث واسع في الأرشيفات الأميركية والإسرائيلية. أكثر من أي شيء، يلتقط إنديك الشدّة الفريدة للدبلوماسية في هذه المنطقة، حيث يُنظر إلى كل حركة بعين الشك، وتعتبر كل تنازل مسألة حياة أو موت. حوّل كيسنجر هذا البيت الزجاجي الصارم إلى منصة لاكتساب السلطة والشهرة.
إنديك واضح بأنّ كيسنجر كانت لديه ثلاثة أهداف: إنهاء الحروب، إزالة السوفييت وحماية إسرائيل. حقّق الهدفين الأوّلين، لكنّ الثالث لا يزال يمثل مشكلة. يظهر المؤلّف أنّ كيسنجر، رغم أنّه كان غالباً ما يختلف مع القادة الإسرائيليين، كان يشاركهم الرغبة في حماية الدولة اليهوديّة من الجيران المعادين. في المقابل، لم يكن لديه ارتباط مماثل بالمجتمعات العربية والإسلامية. لقد كانت خلفية كيسنجر اليهودية ومعاناة عائلته خلال الهولوكوست أموراً مهمّة للغاية، وكان يشير إليها كثيراً. عندما قدّمت إسرائيل تنازلات إقليمية محدودة لمصر وسوريا، عوّض كيسنجر الدولة اليهودية بأسلحة أميركية وتقنية منحتها التفوّق على العرب. لم يكن ذلك خطأ؛ بل كان جزءاً من استراتيجيّته. كما حاول كيسنجر إسكات المطالب الفلسطينية ضدّ إسرائيل. رفض التفاوض مع منظمة التحرير الفلسطينية، حتى عندما فكّر القادة الإسرائيليون في فتح محادثات. كما امتنع عن التفاوض مع الأردن، وهو ما كان من الممكن أن يحمي المصالح الفلسطينية - وهي ثغرة ينتقدها إنديك. القادة العرب الذين منحهم كيسنجر النفوذ، أنور السادات في مصر وحافظ الأسد في سوريا، لم يُظهرا الكثير من الاهتمام بالسكان الفلسطينيين، وكان كيسنجر يعلم ذلك. عزّزت دبلوماسيته إسرائيل، بينما نفّرت الآلاف من غير اليهود الذين عاشوا داخل الدولة وفي أراضيها المحتلة.
كما ازدادت أهميّة اللوبي اليهودي الأميركي خلال فترة ولاية كيسنجر. يشير إنديك إلى الضغوط التي كانت تمارسها المنظمات اليهودية على كيسنجر، غالباً من خلال الكونغرس. كان السيناتور جاكوب جافيتس من نيويورك وهنري «سكوب» جاكسون من واشنطن، اثنين من العديدين الذين هدّدوا بعرقلة التشريعات وقطع التمويل إذا لم يقدّم كيسنجر المزيد لإسرائيل. كانت لرئيس الوزراء يتسحاق رابين علاقات قويّة بشكل خاص مع العديد من أعضاء الكونغرس، وكان يعتمد عليهم لإفشال دعوات كيسنجر لتقديم تنازلات. لم تملِ المنظمات اليهودية الأميركية السياسة الأميركية، لكنّها وضعت حدوداً صارمة. لا تُذكر المنظمات العربية والإسلامية الأميركية كمصادر نفوذ في كتاب إنديك.
كيف استفادت الولايات المتحدة من دبلوماسية كيسنجر؟ لا يتناول إنديك هذا السؤال بشكل مباشر. جعل كيسنجر الولايات المتحدة الفاعل الأجنبي المهيمن في المنطقة، وهو انتصار في الحرب الباردة ضدّ الاتحاد السوفيتي. لكن هل ساعد ذلك المصالح الأميركية على المدى الطويل؟ مع إرسال واشنطن مليارات الدولارات إلى إسرائيل ومصر، تحوّل غضب العديد من الجماعات في المنطقة ضدّ الولايات المتحدة. عندما قام الدكتاتور في القاهرة بقمع المعارضين ورعت الحكومة الإسرائيلية مستوطنات يهوديّة جديدة، أصبحت واشنطن هدفاً للساخطين. لم تمنح المساعدات الأميركية الولايات المتحدة الكثير من النفوذ، لأنّ كلاً من إسرائيل ومصر باتتا تعتبرانها حقاً مكتسباً، بدعم قوي من الكونغرس. يصف إنديك كيف أصبح من الصعب على الرؤساء تهديد أي تخفيضات في المساعدات لهؤلاء الحلفاء. لقد اشترت الولايات المتحدة لنفسها معتمدين مرهقين والعديد من الأعداء.
مع مرور الزمن، تبدو دبلوماسية كيسنجر أكثر نجاحاً على المستوى الشخصي من المستوى السياسي. كما فعل طوال مسيرته المهنيّة الاستثنائيّة، قام كيسنجر برعاية شبكة من العلاقات بين القادة الأقوياء التي جلبت النظام إلى المشهد الفوضوي. وجد طريقة لتحريك خيوطهم. لكنّ مناوراته لم تغيّر المجتمعات التي بقيت في صراع، غالباً لأنّ القادة الذين وقّعوا الاتفاقيات استمروا في استخدام الخطاب العدائي للبقاء في السلطة. استمرّت الحروب بوسائل أخرى.
الدبلوماسية البطولية، على غرار نموذج الأمير مترنيخ، تجمع الشعوب معاً، وليس فقط قادتهم. ركّزت دبلوماسية كيسنجر بشكل مهووس على الرجال القلائل في القمة، لدرجة أنّ من عاشوا تحتهم تمّ تجاهلهم، وغالباً ما تمّ استفزازهم. من بين أمور أخرى، يُعدّ كتاب إنديك رواية رائعة عن كيف يمكن لاتقان الدبلوماسية الشخصية أن يبتعد عن المهمّة الحقيقية للدبلوماسي، وهي تحقيق السلام.