الهوية والمنفى: من فلسطين إلى لبنان
الهوية والمنفى: من فلسطين إلى لبنان
جريدة الجمهورية
Thursday, 03-Oct-2024 06:02

ترك غسان كنفاني، أحد أبرز الأدباء الفلسطينيِّين في القرن العشرين، بصمة لا تُمحى في الأدب العربي بفضل كتاباته التي تناولت القضية الفلسطينية، والنضال من أجل الحرّية، ومعاناة الشعب الفلسطيني. بصفته كاتباً وصحافياً ومناضلاً، كانت أعماله تعكس قضايا سياسية واجتماعية عميقة، كما كانت مليئة بالرموز والدلالات التي تلامس وجدان كل عربي.

تناول كنفاني في رواياته وأعماله الأدبية حياة اللاجئين الفلسطينيِّين، وأثر الاحتلال على الوعي العربي، وعمق الشعور بالانتماء والهوية. من بين جميع أعماله، تبرز رواية «رجال في الشمس» كأحد أعماله الأكثر شهرة وتأثيراً، إلى جانب العديد من الأعمال الأخرى التي تناولت لبنان كجزء من مشهد الكفاح العربي الأوسع.

 

«رجال في الشمس»: صرخة في وجه الصمت

 

«رجال في الشمس» هي إحدى أشهر روايات غسان كنفاني، ونُشرت لأول مرّة في عام 1963. تعكس هذه الرواية معاناة الشعب الفلسطيني المهجّر إلى الدول المجاورة بحثاً عن حياة أفضل. وتركِّز الرواية على 3 رجال فلسطينيِّين يقرّرون الهجرة إلى الكويت بحثاً عن عمل وحياة كريمة، لكنّهم يواجهون مصيراً مأساوياً خلال رحلتهم.

 

تمثّل الرواية نقداً لاذعاً للصمت العربي تجاه مأساة الفلسطينيِّين، فالرجال الثلاثة يموتون في النهاية خنقاً داخل صهريج مياه وهم في طريقهم إلى الكويت. وفي النهاية، يُطرح السؤال الشهير «لماذا لم تدقّوا جدران الخزان؟»، الذي يعكس رمزية الاستسلام والصمت أمام الظلم والمعاناة. وتسلّط الرواية الضوء على اليأس والشعور بالعجز الذي يُحيط بالفلسطينيِّين في ظل غياب أي دعم حقيقي لهم من الدول العربية.

 

إلى جانب الرمزية السياسية، فإنّ «رجال في الشمس» أيضاً رواية نفسية تعكس مشاعر الخوف والاغتراب والبحث عن الذات في ظل الظروف القاسية التي يمرّ فيها اللاجئون. ويُعتبر الخزان في الرواية رمزاً للقيود والحدود التي تُفرض على الفلسطينيِّين، سواء كانت جسدية أو معنوية.

 

«عائد إلى حيفا»: الهوية والذاكرة

 

تُعدّ رواية «عائد إلى حيفا» من أشهر أعمال كنفاني التي تتناول قضية العودة والهوية. الرواية التي نُشرت في عام 1969 تحكي قصة زوجَين فلسطينيَّين يعودان إلى حيفا بعد 20 عاماً من النكبة للبحث عن ابنهما الذي تركوه خلفهم عند الهروب. لكن، عندما يصلان إلى منزلهما القديم، يكتشفان أنّ ابنهما قد تبنّته عائلة يهودية وربّته كإسرائيلي.

 

هذه الرواية تتناول بشكل عميق مفهوم الهوية والذاكرة. هل يمكن استعادة الهوية بعد فقدانها؟ وهل يمكن نسيان الماضي؟ الرواية تطرح أسئلة معقّدة حول العلاقة بين الفرد وتاريخه، وبين الفلسطيني وأرضه. كما أنّها تمثّل انعكاساً للواقع الفلسطيني بعد النكبة، إذ يُجبَر الفلسطينيّون على التعايش مع واقع جديد غريب عنهم، لكنّهم لا يستطيعون الهروب من ذاكرتهم ومن ماضيهم.

 

وتُعتبر «عائد إلى حيفا» من أهم الأعمال الأدبية التي عالجت معاناة الشعب الفلسطيني في المنفى. إنّها رواية تعكس شعور الفلسطيني بالانفصال عن وطنه وتاريخه، وفي الوقت عينه تشدّد على قوة الذاكرة والرغبة في العودة.

 

«أم سعد»: صوت المرأة الفلسطينية

 

في روايته «أم سعد»، يُقدّم كنفاني صورة مختلفة للمرأة الفلسطينية. نُشرت الرواية في عام 1969، وتركّز على شخصية «أم سعد»، وهي امرأة فلسطينية تعيش في المخيّمات وتتحمّل أعباء الحياة اليومية القاسية. لكن على الرغم من ظروفها الصعبة، فإنّها تمثل قوة الإرادة والصمود.

 

«أم سعد» ليست مجرّد رواية عن امرأة فلسطينية، بل هي رمز للشعب الفلسطيني ككل، لأنّها تعكس قوة الصمود والإصرار على الكفاح من أجل الحرّية، حتى في ظل أصعب الظروف. كما أنّها تمثّل دور المرأة في النضال الوطني، إذ تتحمّل العبء الأكبر في الحفاظ على الأسرة والهوية.

 

وتسلّط الرواية الضوء أيضاً على معاناة الفلسطينيِّين في المخيّمات، لأنّهم يعيشون في ظروف قاسية وغير إنسانية. لكنّها في الوقت عينه تعكس الأمل والإرادة في مقاومة الظلم والسعي إلى تحقيق الحرية.

 

كنفاني ولبنان

 

على الرغم من أنّ كنفاني كاتب فلسطيني، إلّا أنّ لبنان كان جزءاً كبيراً من كتاباته وحياته. عاش كنفاني في لبنان لفترة طويلة، وكان قريباً من التنظيمات الفلسطينية التي كانت تتمركز في هذا البلد خلال الستينات والسبعينات. فتأثر بشكل كبير بالنضال الفلسطيني وبمعاناة اللاجئين الفلسطينيِّين الذين عاشوا في المخيّمات.

 

في العديد من أعماله، تناول كنفاني حياة اللاجئين في لبنان، والصراع الذي يواجهونه في ظل الظروف القاسية التي يعيشونها. من بين هذه الأعمال «عن الرجال والبنادق»، وهي مجموعة قصصية قصيرة تتناول معاناة اللاجئين في المخيّمات، والتحدّيات التي يواجهونها في ظل الصراع المستمر مع الاحتلال الإسرائيلي.

 

تُظهر هذه القصص الصلة العميقة بين الفلسطينيِّين ولبنان، إذ كان لبنان محطة مهمّة للنضال الفلسطيني. وعبّر كنفاني عن هذه العلاقة من خلال تصويره لمعاناة اللاجئين، وكذلك عن طريق رصد التحدّيات التي تواجههم في ظل الغياب الدولي عن قضيتهم.

 

تتميز أعمال غسان كنفاني بالتركيز على «المقاومة» باعتبارها الحل الوحيد لاستعادة الحقوق. شخصيات رواياته وقصصه غالباً ما تكون أبطالاً عاديِّين، ليسوا خارقين، لكنّهم يمتلكون إصراراً قوياً على النضال ضدّ الظلم.

 

في روايته «ما تبقّى لكم»، التي صدرت عام 1966، يُعبِّر كنفاني عبر قصة أسرة فلسطينية تعيش في قطاع غزة وتواجه مصيرها في ظل الاحتلال الإسرائيلي، لتجمع بين الواقع والرمزية، على الرغم من كل الصعوبات.

 

كما أنّ «الأدب المقاوم» الذي كان غسان كنفاني رائداً فيه، يعكس إيمان الكاتب بأنّ الكلمة يمكن أن تكون سلاحاً في وجه الظلم، وأنّ الأدب له دور في توعية الناس وحثّهم على النضال.

 

الكتابة السياسية وأثرها على الأدب

 

إلى جانب رواياته وقصصه القصيرة، كان غسان كنفاني كاتباً سياسياً وصحافياً مرموقاً. كتب مقالات سياسية، وشارك في تحرير العديد من الصحف والمجلات. كان يؤمن بأنّ الأدب والسياسة مترابطان، وأنّ الكاتب يجب أن يكون له دور في توعية الناس بقضاياهم الوطنية.

 

هذا التوجّه السياسي كان واضحاً في كل أعمال كنفاني، إذ لم تكن رواياته مجرّد أعمال أدبية بحتة، بل كانت تحمل رسائل سياسية واضحة. كان يؤمن بأنّ الأدب يمكن أن يكون وسيلة للتغيير، وأنّ الكاتب يجب أن يستخدم قلمه للدفاع عن قضايا شعبه.

 

أثر غسان كنفاني على الأدب العربي

 

يُعتبر كنفاني أحد أبرز الأدباء الذين ساهموا في تطوير الأدب العربي الحديث، خصوصاً في مجال «الأدب المقاوم». وتمثّل أعماله مزيجاً من الأدب الواقعي والرمزي، وتعكس واقع الشعب الفلسطيني بطريقة مؤثرة وملهمة.

 

على الرغم من أنّ كنفاني قُتل في عام 1972 في عملية اغتيال نفّذها الموساد الإسرائيلي، إلّا أنّ أعماله الأدبية والسياسية ما زالت تثير الإعجاب والاهتمام حتى اليوم. وتُدرّس رواياته وقصصه في الجامعات، وتُقرأ على نطاق واسع في العالم العربي، إذ يجد فيها القرّاء تعبيراً صادقاً عن المعاناة وأملاً في مستقبل أفضل.

 

لم يكن كنفاني مجرّد كاتب أو روائي، بل كان رمزاً للنضال، من خلال رواياته مثل «رجال في الشمس»، «عائد إلى حيفا»، و»أم سعد»، استطاع أن يُصوِّر المعاناة بطريقة أدبية مؤثّرة تجمع بين الواقع والرمزية. كما أنّ أعماله التي تناولت لبنان تعكس الصلة القوية بين الفلسطينيِّين والبلدان المجاورة، وتوضح كيف أصبح النضال الفلسطيني جزءاً من النضال العربي الشامل ضدّ الاستعمار والاحتلال.

 

سيظل أدب كنفاني خالداً، ليس فقط لأنّه أدب متميّز من الناحية الفنية، بل لأنّه يحمل رسالة إنسانية وسياسية عميقة عن الحرية والعدالة، وعن الحق في العودة والعيش بكرامة.

theme::common.loader_icon