خبيرٌ استراتيجي في الإصلاح الإداري والاقتصاد
منذ منتصف القرن العشرين وحتى اليوم، شهد لبنان سلسلة من الأحداث الكارثية التي هزّت كيانه السياسي والاجتماعي والاقتصادي. من أزمة بنك إنترا وصعود يوسف بيدس، إلى الحرب الأهلية، واغتيال بشير الجميل ورفيق الحريري، وثورة 17 تشرين، وانفجار مرفأ بيروت، كلها وقائع شكّلت نقاط تحوّل في تاريخ البلاد. لكن ما يثير الجدل هو ما إذا كانت هذه الأحداث تسلسلاً طبيعياً للمصائب، أم أنّها نتاج تدخّلات سياسية واقتصادية مقصودة، ضمن سياق اجتماعي واقتصادي مضطرب.
أزمة بنك إنترا وصعود يوسف بيدس
في بداية الستينات، كان يوسف بيدس، المصرفي اللبناني- الفلسطيني، يشهد صعودًا كبيرًا في عالم المال والأعمال، بعدما أسّس بنك إنترا الذي سرعان ما أصبح أحد أكبر المؤسسات المالية في المنطقة. في فترة زمنية قصيرة، تحوّل البنك إلى مركز مالي قوي في لبنان، مع ودائع تفوق المليار دولار. إلّا أنّ هذا الصعود لم يستمر طويلاً، إذ انهار البنك في عام 1966 بشكل مفاجئ، مسببًا أزمة اقتصادية حادة. يُعتقد أنّ انهيار إنترا كان نتيجة ضغوط سياسية واقتصادية من قوى خارجية وداخلية، نظرًا لقوة بيدس وتأثيره الدولي، خصوصاً أنّ صعوده السريع لم يكن ليروق لبعض الأطراف الداخلية والخارجية.
الحرب الأهلية اللبنانية
اندلعت الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975 نتيجة توترات سياسية وطائفية زادت حدّتها بعد توقيع اتفاق القاهرة عام 1969، الذي سمح للفلسطينيين بممارسة العمل المسلّح من الأراضي اللبنانية. هذه التوترات، إلى جانب التدخّلات الإقليمية والدولية، دفعت البلاد نحو حرب دامية استمرت أكثر من 15 عامًا. وبالرغم من أنّ الصراع كان داخليًا في جوهره، إلّا أنّ القوى الإقليمية استغلت الانقسامات الطائفية لتحقيق مصالحها، ما ساهم في تأجيج الحرب وإطالة أمدها. كان لهذه الحرب تداعيات اقتصادية مدمّرة، حيث انهار الاقتصاد، وظهرت شبكات الاقتصاد الموازي والسوق السوداء، وتفكّكت مؤسسات الدولة.
اغتيال بشير الجميل
بشير الجميل، قائد «القوات اللبنانية»، انتُخب رئيسًا للجمهورية في آب 1982، ولكنه اغتيل في ايلول من نفس العام، بعد أقل من شهر على تولّيه منصبه. الانفجار المفخخ الذي استهدف معقله في الأشرفية كان نقطة تحوّل محورية في الحرب الأهلية؛ إذ لو عاش الجميل وواصل حكمه، لكان من الممكن أن يتغيّر مسار الأحداث في لبنان بشكل كبير. اغتياله كان بمثابة عرقلة لمحاولة إعادة بناء النظام السياسي واستقرار البلاد، ما عزز من الانقسامات الطائفية وزيادة تدخّل القوى الإقليمية والدولية في الشأن اللبناني. هذه اللحظة المفصلية زادت من تعقيد الوضع الاجتماعي والاقتصادي، وعمّقت الأزمات الهيكلية التي تعاني منها البلاد.
اغتيال رفيق الحريري
في 14 شباط 2005، قُتل رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري في عملية تفجير هزّت بيروت. كان الحريري شخصية بارزة على الصعيدين المحلي والدولي، بفضل دوره في إعادة إعمار لبنان بعد الحرب الأهلية، وعلاقاته الاقتصادية والسياسية الدولية. اغتياله لم يكن حدثًا داخليًا فحسب، بل جاء في إطار صراعات إقليمية ودولية، وكان له تأثير مباشر على الاقتصاد اللبناني، حيث توقف العديد من المشاريع الاستثمارية، وتراجعت الثقة الدولية في استقرار لبنان. كما أدّى الاغتيال إلى اندلاع «ثورة الأرز» وخروج الجيش السوري من لبنان، لكن الوضع الاقتصادي استمر في التدهور، مما عمّق الأزمة الاجتماعية والاقتصادية.
ثورة 17 تشرين
في تشرين الاول 2019، انفجر الغضب الشعبي نتيجة تدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية. فساد الطبقة الحاكمة وسوء الإدارة المالية أدّيا إلى تراجع الثقة في النظام السياسي برمته. التظاهرات العارمة التي اجتاحت لبنان كانت تعبيرًا عن رفض النظام الطائفي والفساد، لكنها سرعان ما كشفت عن مدى عمق الفساد السياسي والاقتصادي.
سرقة الودائع
بعد اندلاع الثورة، سُرقت ودائع المواطنين من المصارف بشكل ممنهج، حيث تمّ تهريب الأموال إلى الخارج من قِبَل النافذين وأصحاب السلطة، بينما كان الشعب اللبناني يكافح من أجل البقاء. رغم هذه الكارثة المالية والاجتماعية غير المسبوقة، تمّ إخضاع الناس لهذه «المجزرة السوسيو-اقتصادية». كانت الصدمة كبيرة لدرجة أنّ المواطنين الذين خرجوا للمطالبة بالعدالة والحقوق باتوا عاجزين أمام نظام مالي وسياسي يواصل سحقهم بطرق ملتوية. هذا الحدث كشف عن ضعف الدولة وعدم قدرتها على حماية مواطنيها من الاستغلال والفساد.
انفجار مرفأ بيروت
في 4 آب 2020، هزّ انفجار مرفأ بيروت البلاد والعالم. الانفجار الذي نتج من تخزين غير آمن لنيترات الأمونيوم كشف عن عمق الفساد والإهمال في مؤسسات الدولة اللبنانية. تسببت هذه الكارثة في دمار واسع وأضرار اقتصادية هائلة، حيث فَقَد لبنان جزءًا كبيرًا من بنيته التحتية الحيوية. مرفأ بيروت كان من أهم المحاور الاقتصادية للبنان، وتوقفه عن العمل شلّ الاقتصاد بشكل كبير. هذه الكارثة لم تكن فقط نتيجة إهمال، بل كانت جزءًا من مسلسل الفساد الذي طال أمده، مما أدّى إلى تعميق الأزمة السوسيو-اقتصادية بشكل غير مسبوق.
الجدلية: تسلسل مصائب أم افتعال؟
تتداخل في لبنان العوامل الداخلية والخارجية بشكل عميق في صنع الأحداث. ما يجعل من الصعب القول إنّ هذه الأحداث كانت مجرد تسلسل طبيعي للمصائب. في حالة بنك إنترا، الصراعات السياسية الداخلية والخارجية دفعت البنك إلى الانهيار. الحرب الأهلية كانت نتيجة تراكمات داخلية وصراعات طائفية، لكنها استمرت بسبب التدخّلات الإقليمية والدولية. اغتيال الحريري وبشير الجميل كانا لحظات مفصلية في الصراع على النفوذ في لبنان، وفي ثورة 17 تشرين، على الرغم من أنّها بدأت بحراك شعبي حقيقي، إلّا أنّها سرعان ما استُغلت سياسيًا. أما انفجار مرفأ بيروت فقد فضح فساد النظام السياسي والاقتصادي القائم في البلاد، لكنه أيضًا أثار تساؤلات حول دور المصالح الدولية في تعزيز أو إضعاف مؤسسات الدولة اللبنانية.
عند تحليل كل هذه الأحداث ضمن السياق السوسيو-اقتصادي، يمكن ملاحظة كيف أنّ التدهور الاجتماعي والاقتصادي يشكّل القاسم المشترك لكل الأزمات الكبرى التي عصفت بلبنان. سوء الإدارة، الفساد، وانعدام التنمية العادلة، والتهاون الشعبي المزمن، والتواطؤ الصارخ بين النخب السياسية والمالية، كلها أسهمت في تعقيد المشهد اللبناني، حيث بات الإحباط والاستسلام الجماعي عنواناً للشعب، في ظل ما يمكن تسميته بأكبر عملية سرقة ممنهجة في تاريخ البلاد، حيث سُرقت أموال المودعين في المصارف علنًا. هذه الأزمات المتكرّرة لم تكن وليدة صدفة أو تسلسل طبيعي للمصائب، بل عكست تفككًا اجتماعيًا عميقًا، وتعزيزًا للإفلات من المحاسبة، مما أتاح للقوى الإقليمية والدولية استغلال هشاشة الدولة اللبنانية ومؤسساتها، وإبقائها في دائرة مفرغة من الأزمات.
في نهاية المطاف، تُظهر لنا هذه الأحداث أنّ لبنان ليس بمنأى عن التأثيرات الخارجية، سواء كانت سياسية أو اقتصادية. تداخل المصالح الإقليمية والدولية مع الفساد الداخلي جعل من لبنان ساحة لتصفية الحسابات، مما يثير السؤال: هل كانت هذه الأحداث مجرد تسلسل طبيعي للمصائب، أم افتعالاً مقصودًا؟ كل أزمة تكشف عن ضعف البنية الاقتصادية والاجتماعية اللبنانية، وتعزز الفكرة بأنّ التدهور السوسيو-اقتصادي الممنهج، خلال العقود الثمانية الماضية، كان المحرّك الرئيسي لكل هذه الأحداث.
أما الحديث عن حلول من قبيل أنّ «إعادة بناء لبنان لا تحتاج فقط إلى إصلاحات سياسية، بل إلى إصلاح اقتصادي واجتماعي شامل يعالج جذور الفساد ويعزز الشفافية»، فقد يبدو أقرب إلى الشعر أو البلاغة الأدبية في ظل الواقع الحالي. إنّ الفشل في مواجهة التحدّيات الاقتصادية والاجتماعية، أو حتى التعمّد في عدم التصدّي لها، قد يعني، والتاريخ الحديث يشهد على ذلك للأسف، أنّ لبنان سيظلّ عرضةً لدورات مستمرة من الأزمات الداخلية والتدخّلات الخارجية، مما يعيد مرّة تلو الأخرى إنتاج تاريخه الحافل بالاضطرابات والمآسي.