«لنستَيقظ»!
«لنستَيقظ»!
محمود القيسي
Tuesday, 17-Sep-2024 06:30

«نحن لا نعرف ما يحدث لنا وهذا بالضبط هو ما يحدث لنا» - الفيلسوف الإسباني خوسيه أورتيغا إي غاساي

 

عالِم الاجتماع والمفكّر الفرنسي صاحب الفكر المُركّب إدغار موران، مدير الأبحاث الفخري في «المركز الوطني للبحث العلمي» في فرنسا، يُعدّ واحداً من المفكّرين الأكثر فرادة في عصرنا، وقد تجاوز تأثيره الفكري والمعنوي حدود بلده فرنسا. هذا بالإضافة إلى عشرات الأعمال الأخرى للكاتب الفيلسوف من «دروس قرن من الحياة»، إلى «نجوم السينما»، و»مع ماركس وضدّ ماركس»، «ثقافة أوروبا وبربريتها»، «نحو سياسة حضارية»، مروراً «من حرب إلى أخرى»، «الفكر والمستقبل مدخل إلى الفكر المُركّب»، «التفكير الشامل»، «في مفهوم الأزمة»، «التفكير شمولياً: البشر وكونهم»، وصولاً «إلى أين يسير العالم؟» و»لنستيقظ»!

 

الفيلسوف الفرنسي الكبير إدغار موران الذي احتفل قبل فترة بعيد ميلاده الـ102، ما زال يعمل على حاسوبه ويردّ على أسئلة واستفسارات الطلاب والباحثين عبر مدوّنته الشخصية... ومن أبرز أعماله المترجمة إلى العربية كتابه «لنستَيقظ»، وكتابه الضخم «السبيل لأجل مستقبل البشرية» وكذلك كتاب «دروس قرن من الحياة»، إذ لخَّص العَيش لـ100 عام في هذا الكتاب، فقال: «ما من فرصة حياة إلّا وتحتمل ما لا يُحصى من الحظوظ التعيسة، صراع هوية وتغيّرات فكرية وسياسية ثم الحروب والحب». ثم يُضيف: «لينعم المرء بشيخوخة طيبة، عليه أن يحافظ على فضول الطفولة الذي لا ينضب وطموح المراهقة الذي لا يغيب، لكن من دون الأوهام المرتبطة به».

 

لقد أيقن هذا الباحث الكبير أنّ الشيخوخة لا تتعلّق بدقات الساعة أو عدد صفحات كتاب الحياة التي تمّ طيّها، بل هي عمق الحكمة ونضج الفكر الذي اكتسبه عند تقليب تلك الصفحات التي أراد أن يستمتع بكل فصلٍ منها حتى النهاية.. قلةٌ حقاً في صفّ المفكّرين والأدباء الآن في فرنسا مَن نسمع صوتهم في المعركة الحامية التي تدور رحاها بين جبهة الرجعية وإيديولوجية التمييز والإقصاء والترهيب بما يسمّيه أساطيلها بـ»الاحلال الكبير» للمهاجرين والأجانب (القصد: العرب تحديداً) والقوى التقدّمية والجمهورية التاريخية، المشرذمة، حالياً. لكنّ موران، ومنهج تحليلاته، لا يكتفي بمعاينة الظاهر وشجاعة الفضح وإدانة التعصّب العرقي وأنصار الليبرالية المتوحّشة، بل يستحضر التاريخ الفرنسي بوجهيه المظلم والمشرق ومحيطها من الثورة الفرنسية بفصولها المتناقضة، خصوصاً كونها نصيرة الحّرّيات والأنوار.

 

يقول مؤلف كتاب «الأحمق الغبي هو مَن لا يُفكّر» إدغار موران: الغزيّون يعانون وحضارتنا في أزمة وجودية بامتياز وجودي... يُعرَف أحد أكبر الفلاسفة الفرنسيِّين -ذو الأصول اليهودية الإسبانية (السفرديم)- بمواقفه المؤيّدة لحق الفلسطينيِّين في إقامة دولة خاصة بهم، وقاده مقال كتبه في صحيفة «لوموند» الفرنسية ندّد فيه بالسياسة الإسرائيلية إلى المحاكم الفرنسية عام 2004.

 

كما دعا المفكّر الفرنسي - صاحب كتاب «هل نسير إلى الهاوية؟» - لاتخاذ موقف و»عدم نسيان القضايا العادلة»، مشيراً إلى أنّه يتخذ موقفاً يتمثل في القلق الإنساني تجاه أولئك الذين يعانون «وفي الوقت الحالي هم في غزة». وأضاف الفيلسوف - مؤلف كتاب «ثقافة أوروبا وبربريّتها» - أنّ الأمر ربما لا يكون سهلاً، «ففي الواقع ليس الجميع ضدّ الحرب، وهناك أوقات يجرفنا فيها التيار، ويطلب منّا أن نختار جانباً ونتخذ موقفاً، أنا أتخذ موقفاً من قلق الإنسان والإنسانية».

 

وأكّد - مؤلف «دروس قرن من الحياة» (2023) - أنّنا نعيش في عالم من عدم اليقين، لأنّ مصير الإنسان أمرٌ منسيّ تماماً، وفسّر ذلك بقوله «لم تتعرّض الإنسانية قط إلى مثل هذا القدر من المخاطر، لأنّه إذا انتشرت الحرب على نطاق واسع واستُخدِمت الأسلحة النووية وغيرها، فإنّنا لا نعرف إلى أين نتجه، إلى أي تراجع، أو إلى أي انحطاط».

 

وتناول بالنقد واقع الإنسان في «عالم اليوم الغامض والمعقّد، وشعور الكراهية الذي ينتشر أكثر في العالم»، داعياً لعدم الاستسلام للكراهية. وتابع موران أنّنا بحاجة إلى مواجهة هذا العالم الذي يبدو فوضَوياً، مشيراً إلى أنّ الفوضى تحمل في طياتها قوى التدمير والإنشاء (التكوين) في الوقت ذاته، مستشهداً بقول اليونانيِّين القدماء بأنّ «الكون (أو العالم) ابن الفوضى»، أي مزيج من النظام والفوضى معاً، وأضاف: «نحن بحاجة إلى تفكير ملائم وقادر على فهم هذا التعقيد والتعامل معه بأفضل شكل ممكن من خلال تغيير الإستراتيجية عند الضرورة». أو تغيير كل الاستراتيجيات... استراتيجيات الموت والعنف والكراهية.

 

يؤمِن الفيلسوف العاشق للشعر موران بأنّ الأجيال الشابة إكسير الحياة وخلاص البشرية من الشرور والحروب... وعلى غرار نصائحه المستمرة للأجيال الأصغر سناً، يقول موران «أعتقد أنّ الشباب اليوم يجب أن يفكّروا في خلاص البشرية التي ينتمون إليها... يتعيّن على الشباب أن يدركوا أنّ الكوكب مُهدّد بتدهور بيئي عام وأنّ حضارتنا نفسها مهدّدة، وأن يَروا كل هذه التهديدات». وأردف مدمن الشعر والحب والدهشة «أشيدُ بقدرة الشباب على اتخاذ المواقف، لأنّه عندما نكون جزءاً من قوى متحدة ومرتبطة معاً ضدّ التدمير والكراهية، نشعر بالراحة في دواخلنا. عندما كنتُ مقاوماً - على الرغم من الحقبة المرعبة التي عشتُ فيها - كنتُ مرتاحاً في داخلي، لأنّني كنتُ أقوم بما يجب فعله».

 

وقال فيلسوف «الحرب من دون كراهية» إدغار موران: «خضتُ الحرب (العالمية الثانية) من دون كراهية للألمان. كنتُ أكره (النازية وإيديولوجيّتها)، لكنّني أعتقد أنّ المسألة الحقيقية هي عدم الاستسلام لهذه العملية الحتمية التي تؤدّي إليها الفكرة الخاطئة بأنّنا نواجه وحوشاً دائماً، أو أناساً من الطبقة السفلية».

موران، مُنْتِجُ الفِكر المُعقّد، كان أقربهم إليه أولئك الأقدر على التعبير عن تعقيدات وتناقضات الحياة والناس، بما في ذلك تعقيداته وتناقضاته هو نفسه: «هكذا كُنت مدفوعاً إلى صياغة فكر قادر على الاعتراف بتناقضاتٍ ومجابهتها من دون توقف، هناك حيث لا يرى الفكر العادي سوى بدائل، واكتشاف حقائقي عند مُفكّرين يتغذون على التناقضات: هرقليطس وباسكال وهيجل وماركس». يعتبره موران، بجانب باسكال، الفيلسوف الأبلغ أثراً في مساره الفكري والحياتي. فيه وجد «التناقضات الأساسية التي يتعذّر تخطّيها»، فتغذّى منها وأغنى بها مشروعه المُتمركز حول مفهوم التعقيد.

 

مقولات هرقليطسية من قبيل «الخير والشر كلاهما واحد»، و»الطريق العلوي والطريق السفلي كلاهما واحد»، و»مُستيقظون، ينامون»، تحولت إلى ما يُشبه اللازمة في كُتبه ومقالاته وحواراته. إنّ ما أبهر موران في هرقليطس، هو قدرته على الجمع بين فكرتين متضادتين، كان من المُفترض أن تُبعد إحداهما الأخرى. يتعلق الأمر بالمبدأ التحاوري، الركيزة الأساسية لفكر موران المُعقّد. لا يتذكر موران في أي وقت من شبابه اكتشف هرقليطس، قبل هيجل أم بعده؟ ومع ذلك فإنّه يعترف قائلاً: «يجب أن أقول إن تَحَاوُرِيَّتِي تظلّ أقرب إلى هرقليطس، وتختلف عن جدلية هيجل وماركس، التي ترى دائما إمكانية لتجاوز التناقضات».

 

يقول موران: «لقد قرأت باسكال في وقت مبكر جداً، واليوم أفهم ما جعلني ويجعلني باسكالياً إلى الأبد: إنّها الصلة والصراع المدهش والمتكامل بين الإيمان والعقل والشك؛ الصراع والتكامل اللذان كانا دائماً خاصتي». يرى سيد المنهج في إحساس باسكال الحاد بالتناقضات والمفارقات الإنسانية، بصمة أنثروبولوجيٍ عميق، شديد الوعي بتعقيدات الشرط البشري. تشهد على ذلك مقولات خاطفة من قبيل: «التفلسف الحقيقي يسخر من الفلسفة»، و»إن البشر مجانين بالضرورة بحيث لا يفلتون من الجنون إلّا بحركة مجنونة أخرى». إدغار موران لم يقل غير هذا الأمر حين اعتبر الإنسان كائناً عاقلاً ومجنوناً في نفس الوقت.

 

قرأ إدغار موران هيجل سنة 1942، في عزّ الحرب، قادماً إليه من ماركس: «كان الأمر مُبهراً بالنسبة لي: اكتشفت فكراً يُجابه التناقضات ويقترح تجاوزها. اكتشفت أنّ التناقض يُشكّل أساس الكائن والحياة والفكر»، ذلك أنّ موران نفسه كان يعيش ممزقاً داخل مجموعة من التناقضات: الإيمان، الشك، الأمل، اليأس. وإذا كان للبراكسيس الثوري (الماركسي) أهميته من أجل مغادرة سماء الأفكار ومجابهة واقع الحياة والموت الذي تفرضه الحرب، فإنّ هذه المخاطرة لم تكن ممكنة، في نظر موران، إلّا باستدعاء هيجل وقوله في فينومينولوجيا الروح: «فقط من خلال المُخاطرة بحياتنا نُحافظ على حُريتنا».

 

سُئل صاحب مقولة -ليس لدينا وعي تام بأننا نسير نحو الهاوية- إدغار موران في مُقابلة أجراها مع «franceinfo»، كتبت في إحدى مقالاتك الصحافيّة: يجب أن نفهم أنّ أي شيء يحرِّرنا تقنياً ومادياً يمكن في نفس الوقت أن يستعبدنا. أنت تتحدَّث عن الأداة الأولى التي تحوَّلت إلى سلاح على الفور. أنت تتحدَّث عن مخاطر التكنولوجيا الحديثة، وخاصّة المُراقبة بالفيديو والخوارزميّات. هل هي مخاطر فورية؟

 

– إنّها أحد المخاطر في هذا المُجتمع، دعونا نسمّيها الشموليّة الجديدة، التي يمكن أن تترسخ. لكن يجب ألّا ننسى المُحيط الحيويّ الذي سيزيد كلّ هذا سوءاً إذا استمرّت أزمة المناخ. يجب ألّا ننسى أن التعصُّب منتشر في كلّ مكان. ما يذهلني كثيراً هو أننا في هذه اللحظة -والوباء دليل على ذلك- جميع البشر، مجتمع المصير، نعيش جميعاً نفس الشيء من نيوزيلندا إلى الصين وأوروبا. لقد عانينا من نفس المخاطر الجسديّة والشخصيّة والاجتماعيّة والسياسيّة.

سُئل ايضاً هذا المفكِّر الإنسانيّ الكبير، أحد أبرز منظِّري الفكر المعقّد خلال الاحتفال بعيد ميلاده الـ 100 يوم 8 يوليو/تموز 2020، ذكرنا أشياء كثيرة سوداويّة سواء في الحاضر أو الماضي، هل من إشارة أمل لمناسبة عيد ميلادك المئة؟ هل ترى مستقبلاً مشرقاً محتملاً للبشرية؟

– أولاً، أعلم أنّه لا يوجد شيء غير قابل للإصلاح. لسوء الحظ، لا يمكن عكس الديموقراطيّة، لكن الديكتاتوريّة يمكن أن تكون عكس ذلك. عشنا أزمنة مظلمة مثل الاحتلال، حيث لم يكن هناك أملٌ لسنوات، حتى وصلت معجزة الدفاع عن موسكو ودخول الولايات المُتحدة للحرب. لذلك، فإنَّ ما هو غير محتمَل يحدث في التاريخ. تحدث أحداث سعيدة. أحياناً يكون لها معنى محدود فقط، لكنها تظلّ مهمَّة. خذ البابا فرانسيس، على سبيل المثال، إنّه أول بابا منذ قرون يعود إلى مبادئ الإنجيل، وأصبح مدركاً للمخاطر التي تهدِّد الأرض والفقر والبؤس البشريّ. لم يكن متوقَّعا أن يخلف هذا البابا باباً آخر كان منغلقاً جدّاً ورجعياً للغاية.

في الأساس، هناك دائماً صراع بين ما يمكن أن نسمِّيه قوى الإتحاد والتجميع والصداقة، إيروس، والقوى المُضادة للدمار والموت، ثاناتوس. إنّه الصراع الأزلي منذ نشأة الكون، حيث تلتقي الذرات، وحيث تدمِّر النجومُ بعضها البعض، وتبلعها الثقوب السوداء. هناك أتحاد وموت في كلِّ مكان. في الطبيعة المادية، وفي العَالَم البشريّ. أقول للناس وللشباب: اصطفوا إلى جانب قوى الخير، قوى الإتحاد والتجميع والمحبة، وناضلوا ضدّ كلّ قوى الدمار والكراهية والازدراء.

 

يرى صاحب صرخة «لنستيقظ» إدغار موران أنّ العالم يعيش أزمة فكر يحاول كثيرون أن يهربوا منها. نعم، أزمة شاملة وأكبر من إشكالية الهجرة، ومن انهيار أو تفكك أحزاب اليسار، ومعضلة الديموقراطية، وتورّم الدولة البيروقراطية، ولا هي في منظوره أزمة حضارة وإنسانوية، بل يراها أبعد ممثلةً في أزمة فكر. نعم، أزمة فكر بدأت منذ هيروشيما ونقلت البشرية إلى عهد جديد، فامتلكت تسع دول السلاح النووي، ومعه أصبح العلم مفتاح تقدّم البشرية أداة لموت كل الحضارات، هكذا كشفت العقلانية العلمية عن وجه لا عقلاني. نعم، لنستيقظ لأنّنا لا نعرف ما يحدث لنا، وهذا بالضّبط ما يحدث لنا. فما هو هذا الجهل؟ هل هو قصر في النّظر إزاء كلّ ما يتعدّى الفوريّ؟ أم تصوّر غير دقيق للواقع؟ أم سرنمة معمّمة؟ ماذا يحدث لفرنسا؟ ماذا يحدث لأوروبا؟ ماذا يحدث في الشرق الأوسط؟ في الشرق الأقصى؟ ماذا يحدث في أميركا؟ ما كل هذه الحروب في إفريقيا؟ ماذا يحدث في أوكرانيا وفي غزة وفي مضيق تايوان؟ ماذا يحدث في العالم؟ دعونا نحاول إيقاظ ضمائرنا.. دعونا نستعيد وعينا.. دعونا نستيقظ.. قبل فوات الأوان!

 

theme::common.loader_icon