اميل نيلجان كوّر في قبضته السحر فعانقه
اميل نيلجان كوّر في قبضته السحر فعانقه
نسرين بلوط
Thursday, 29-Aug-2024 06:57

لا يمكن للشاعر أن يثني سنين عمره في لحظاتٍ بنفسجيّةٍ تتلوّن وتنتمي إلى المجرّدات التي يصوغها القلبُ بمنتهى الرقّة الانتقائيّة سوى بتتبّعه الرصد الشعري الذي ينضح بالعبارات الفريدة التي تعقص باقةً من التلاعب الضمني بالمفردات المجازيّة، وتولّد حالة من الانفعال اللاارداي في حركة التصوير والتوصيف الذي يقود إلى حالاتٍ نفسيّة انعكاسيّة ووجوديّة بحتة.

وقد خاض الشاعر الكندي الفرنسي اميل نيلجان التأويل المنعش في دائرته الخاصّة التي تقصيه عن العالم الخارجي وتضعه في مواجهةٍ دائمةٍ مع ذاته التي يروّضها على تقبّل الصعاب وخوض الشعاب بسعادةٍ مفرطة تنبع عن تشبّثه الحي بالحياة ومباهجها الكثيرة التي تجذبه إليها بكلّ خواصّها، متأهّبةً للتنكير من صعوبة الواقع ومغبّة عرقلاته، لتصنعَ موارد فكريّة ومشاعرَ سامية في شيفرة معيّنة تمتزج بخصوبة الفواصل التي تتشكّل مع الوقت وحسب ظروف الزمان والمكان.

 

وقد غبّ من أرصفة الانتظار الممل ولكنّه لم يسأم، فكانت معشوقته الطبيعة بوجوهها المتقلّبة، لا يملّ من غضبها ولا يثنيه تململها، فراج طيفها في وجدانه ولم تقابله بالصد، بل فتحت له ذراعيها لتعانقه ببهجةٍ حيويّة طالت جمله الشعريّة الموجزة وقلبت كيانه.

 

في قصيدة "أغنية الخمر" يقول نليجان:"يمتزج الكل في فرح أخضر وبهي/يا لجمال هذه الأمسية من مايو، العصافير في جوقة الأحلام التي كانت زمنا في قلبي/ تنشد أغنيتها على نافذتي المشرعة/ يا لجمال هذا المساء من مايو، مساء مايو المرح/ ارغن بعيد يعزف ألحانا فاترة/ أعمدة الشمس الطويلة تشبه سيوفا قرمزية/ تنفذ في قلب يوم يموت متعطرا/ مرح أنا ومبتهج. في الكأس الرنان/ أسكبوا الخمر اسكبوه، مرة بعد مرة/ كي أستطيع نسيان الحزن اليومي/ الذي يصاحب احتقاري للوضعاء/ مرح أنا ومبتهج. عاش الخمر عاش الفن /أحلم بكتابة سطور مهمة من الشعر/ سطور بموسيقى جنائزية لرياح الخريف، تعبر الضباب بعيدا/ انها قدرة الضحكة المرة والغضب/ من أن تكون شاعرا، وان تكون محتقرا/ من أن تملك قلبا، وان لا يفهمك أحد/ في حضرة قمر صاف وأمسيات بعواصف هائلة".

 

هي قصيدةٌ تنطلق في فلوات الروح وتجذب إليها كلّ الماورائيّات الغير محسوسة، وعلى طريقة التشعّب الفكري الذي منهجه ايمانويل كانط في مزج المدرسة العقليّة والتجريبيّة، حيث مخر آفاق الميتافيزيقيا العميقة التي يرسو على ضفافها الفكر المتمرّس، حاول نيلجان أن يلينَ مع الأسرار الجازمة في كفّ الطبيعة فلم يهزّه البرد ولم تقعده الرياح العاتية عن وضع مذهب التفاؤل على طريقة كانديد لفولتير وتصنيف مواهبه في تعدّد الخصال الذهبيّة التي تمنّ عليها الكائنات المطلّة من الفضاء والراسية على الأرض، فكأنّه يعاند بيئته الكنديّة الباردة ويمهّد للدفء المتدفّق من بين طيّات الأفلاك العظيمة الساهية التي تغدق على الشاعر بأحاسيس تتلثّم بالطمأنينة وتتوهّج بالعظمة.

 

وقد انطلق نيلجان في توليف هذه الهبة السماويّة التي تجاوبت معها نفسه حتى الثمالة، فتخدّر كيانه بخمر النشوة وهصرَ أجفان السحاب بدموعٍ رقيقةٍ نفثها قلمه في محموميّة نادرة تتصالح معها كلماته، وقد كان عاشقاً للسير وحيداً في طرقاتٍ وعرة يبحث عن مكامن السحر فيها، ويسخّر نفسه للاشباع الجوهري في التكتّل العاطفي المبرم بين طيّاتها، فبالغ في الوصف حتّى رتّلت روحه جوقاتٍ شعريّة لم يفلح في كبتها فتفجّرت ينابيعَ من الحنين والبهجة المفرطة. وقد عرف عنه محيطه ولعه بالتأمّل الدائم وميله للصمت وشغفه بالمطالعة، وكان عاشقاً للفلسفة ورسولاً لصفاتها ومذاهبها التفاؤليّة وفلاسفتها العظماء.

 

عاش نيلجان في سكونٍ مطبق وفرحٍ دائم، ورغم تخوّفه وتبرّمه من الثلج الذي يبثّ فيه نوعاً من الفراغ المخملي الأبيض وردحاً من الرهبة الهائلة، إلا أنّه كان يحيل مشاعره السلبيّة إلى جنونٍ من الآمال العالية التي تقصي عنه كلّ المؤشّرات النفسيّة الحزينة، ويمارس من خلالها سحر الاغواء الشعري العاطفي الذي أقصاه عن الحشرجات المنبعثة من آلام الكون ونبذه للضعفاء والمتآمرين على الحريّة الفرديّة والاجتماعيّة، ووضعه في خانةٍ من الترميز على غرار ما آل إليه تحليل رانسيير في شعر رامبو وهوغو والذي آمن بالانعتاق الذهني، وقد تأثّر بالاندماج الدائم بين الحضارات والذي تميّزت به كندا فاستمدّ الكثير من بحوثه وآرائه الفكريّة وقصائده الشعريّة من هذا الزخم الهائل من التنوّع الحضاري المتبلور على مدار الأيّام.

theme::common.loader_icon