على عتبة النظام العالمي الجديد
على عتبة النظام العالمي الجديد
الدكتور غسان ملحم

أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية

 

Tuesday, 13-Aug-2024 07:27

في الواقع والحقيقة، لقد كُتِب الكثير وقيل الكثير حول النظام العالمي الجديد: ماهيته، طبيعته، أركانه، أطرافه، ملامحه، سماته، مضامينه، جوانبه، أبعاده، آفاقه، مساراته واتجاهاته. وباتت الأدبيات العلمية والأكاديمية والصحافية والإعلامية، الحديثة والمعاصرة، في العلوم السياسية والعلاقات الدولية، حافلة وذاخرة بالكثير من المواد في الصحافة المكتوبة، المطبوعة أو الإلكترونية والرقمية، وفي الإعلام المرئي والمسموع، كما في الجامعات ومراكز الأبحاث، حول النظام العالمي الجديد. بعضها قد يكون صحيحًا، وبعضها الآخر قد يكون غير دقيق، وربما غير واقعي وغير منطقي، بل فيه شيء من الشوفينية، العنصرية، الشعبوية، المركنتلية، الزبائنية، السوريالية أو السفسطائية. فما الذي يمكن الإدلاء به وتدوينه في النظام العالمي الجديد - بعيدًا من كل ذلك - من ضمن الملاحظات والمقاربات والقراءات والكتابات والتحليلات العلمية والأكاديمية والصحافية والإعلامية عند هذا الموضع أو المقام بالتحديد، في مثل هذه اللحظة السياسية والتاريخية والإستراتيجية، وضمن إطار هذا السياق السياسي والتاريخي والإستراتيجي؟

الفترة الإنتقالية المؤقتة

نحن لا نزال حتى حينه في خانة المرحلة الإنتقالية المؤقتة. رؤية المشهد والأفق تبدو ضبابية وغير واضحة. فالنظام العالمي القديم قد سقط وانكسر، في إشارة إلى كل من نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية أولًا، ونظام ما بعد الحرب الباردة ثانيًا؛ ولكنه لم ينتهِ بعد؛ بل ثمة مفاعيل ما تزال قائمة على مستوى القواعد والآليات. مع ذلك، نحن خرجنا من حقبة الهيمنة القطبية الأحادية، الغربية عمومًا والأميركية خصوصًا، ولم نعد فيها من حيث التأريخ والتحديد الزمني. كما أن النظام العالمي الجديد، المكتمل الأركان والشروط والأوصاف، لم يبدأ بعد؛ ولكنه آخذ بالتشكل، في إشارة إلى المخاض الذي نعيشه على الصعيدين العالمي والإقليمي. ونحن نقترب منه شيئًا فشيئًا. مع ذلك، نحن لم ندخل في حقبة التعددية القطبية بشكل نهائي، حيث نقف على عتبة هذا الطور الزمني الجديد بانتظار مآلات الأحداث والتطورات والتحولات والمستجدات الدولية، العالمية والإقليمية.

 

لكل ذلك، تشهد الحياة الدولية برمتها هذه الحالة من الفوضى والإرباك والتخبط واختلال التوازن، بل انعدام التوازن وانعدام الرؤية وانعدام اليقين، وذلك حتى إشعار آخر بطبيعة الحال، ولحين الخروج من هذه الدوامة والإفلات من عنق الزجاجة وهذه الحلقة المفرغة من الدوران والتيه.

 

مسارات سيرورة الإستقطاب العالمي

في هذه الفترة الإنتقالية المؤقتة، تراجعت قدرة الولايات المتحدة الأميركية من جهة الغرب، وعلى رأس محور القوى الغربية، على الإستقطاب العالمي، دون أن يعني ذلك أنها فقدت هذه القدرة بكاملها، أو انتفت قدرتها على ممارسة النفوذ المعنوي والنفسي من زاوية السيكولوجيا السياسية، التأثير السياسي والدبلوماسي، التدخل الإنساني أو لأسباب إنسانية، كما التدخل العسكري والضغط الإقتصادي، ودون أن يعني ذلك بالتبعية أن ثمة تبدلًا أو تحولًا ملحوظًا، يمكن البناء أو الرهان عليه، في خريطة التموضعات والإصطفافات العالمية والإقليمية على مسرح السياسة الدولية، ولا سيما على الساحة الغربية عمومًا والساحة الأوروبية خصوصًا، أقله من جهة معسكر القوى الغربية عمومًا والأوروبية خصوصًا، لناحية التبعية للإرادة الأميركية. في المقابل، تتزايد وتتنامى بالتوازي قدرات القوى الناشئة والصاعدة من جهة الشرق على الإستقطاب العالمي، دون أن يعني ذلك بالضرورة استئناف واستكمال عملية تكوين أو تشكيل محور القوى الشرقية، أو أنها باتت مراكز قوى دولية - إقليمية، مكتملة النمو في التكوين والتشبيك وتركيب القوة، للإستقطاب العالمي، أو أنها حتى تجاوزت وتخطت قدرة أميركا، وليس أوروبا، على الإستقطاب العالمي، وتفوقت عليهما، حيث ما يزال أمام كل من روسيا والصين والهند وإيران وسواها الكثير لإنجازه أو لإحرازه.

 

وعليه، تبدو مسارات سيرورة الإستقطاب على الصعيد العالمي غير مكتملة واتجاهاته غير ناضجة بعد، حتى أن العديد من الخبراء يرصدون ظاهرة التشوش والتشوه في منصات وإشعاعات الإستقطاب العالمي، بالنظر إلى غياب وعدم وجود أقطاب عالمية، قوية ومقتدرة؛ وهو الأمر الذي يفاقم اضطراب وعدم استقرار الأوضاع الدولية بطبيعة الحال.

 

الأزمة الصحية العالمية سنة 2020

جاءت الأزمة الصحية العالمية سنة 2020 مع تفشي جائحة فيروس كوفيد-19/كورونا (Covid-19/Corona Virus) لتكشف بالدرجة الأولى إخفاق الأنظمة الغربية وغير الغربية للرعاية الصحية والإجتماعية وفشلها، أو بالأحرى تعثر هذه الأنظمة وتعذر استمرارها بتأمين وتوفير خدماتها وتقديماتها بذات الجودة والفاعلية بالحد الأدنى، وتراجعها وانهيارها، ولتثبت بالدرجة الثانية حتمية ودورية اندلاع الأزمات المتكررة، ومنها الأزمات المالية والإقتصادية والإجتماعية أيضًا، في النظام الرأسمالي العالمي بصورة عامة وفي الرأسماليات الغربية بصورة خاصة. لقد نقدت ونقضت مجريات هذه الأزمة الصحية العالمية فرضية الدكتور فرانسيس فوكوياما في كتابه الذي صدر سنة 1992 بعنوان "نهاية التاريخ والرجل الأخير" (The End of History and the Last Man) حول الإنتصار الحكمي والحتمي والنهائي للرأسمالية.

 

وعليه، فقد أعادت هذه المحطة الخطيرة والبالغة الخطورة في تاريخ ومسار تطور الرأسمالية العالمية والرأسماليات الغربية النقاش السياسي والفكري والبحث العلمي والأكاديمي في واقع ومستقبل ومصير النظام الرأسمالي العالمي، وفتحت الباب مجددًا للخوض في مسألة النظام العالمي الجديد، بعيدًا من الثابتات والمسلمات والحتميات النمطية للرأسمالية في العالم بأسره وفي الغرب بجناحيه الأميركي والأوروبي.

 

الأزمة الإقتصادية العالمية سنة 2021

ثم جاءت الأزمة الإقتصادية العالمية سنة 2021 لتزيد الطين بلة، وذلك في ذروة المعاناة الإنسانية من أزمة الوباء العالمية ومترتباتها المباشرة وغير المباشرة. وهي لا تقل صعوبة عن الأزمة الصحية العالمية، وإن كانت الأخيرة أكثر خطورة على الحياة البشرية والحضارة الإنسانية من الأزمة الإقتصادية العالمية. هذه المشهدية العالمية بين الأزمة الصحية والأزمة الإقتصادية، وكذلك الأزمة الإجتماعية، تجعلنا نستذكر ونستحضر الأزمة المالية العالمية سنة 2008، التي انفجرت على أثر أزمة الرهن العقاري الأميركي، والتي انتقلت كالنار في الهشيم من أميركا إلى أوروبا فعموم أنحاء وأرجاء المعمورة. إن هذه الأزمة - كما سابقتها التي كانت وُلِدت هي من رحمها - أفضت إلى المزيد من التصدع والتشظي البنيويين في النظام العالمي القائم، حتى أن الدكتور هنري كيسنجر، مستشار الأمن القومي الأميركي ووزير الخارجية الأميركية سابقًا، أفاد حينها، في إحدى أشهر مقالاته الصحافية على الإطلاق، والتي نُشِرت في جريدة وول ستريت جورنال الأميركية (Wall Street Journal) في شهر نيسان 2020، أن النظام العالمي الجديد بعد هذه الأزمة لن يكون هو نفسه كما قبلها، وأن كل شيء يتغير، ناهيك عن الفشل الجليّ والبيّن للديمقراطيات والرأسماليات الغربية في أكثر من مجال وعلى أكثر من صعيد، وذلك بحسب المصدر نفسه.

 

الحرب الروسية - الأوكرانية سنة 2022

إن الحرب الروسية - الأوكرانية هي محطة تاريخية مهمة للغاية، شكلت علامة فارقة في مسار تطور العلاقات الدولية الحديثة والمعاصرة. هذه الحرب كانت ولا تزال تفرض نفسها على الأجندة العالمية وجدول أعمال الأحداث العالمية، وتلقي بثقلها على عواصم القرار العالمية والإعلام العالمي والرأي العام العالمي. لقد دخلت روسيا هذه الحرب، بل خاضت غمارها ابتداء، في مواجهة مجموعة القوى الأطلسية، الأميركية والأوروبية. وشكلت هذه المعركة تحديًا جديًّا للروس والأوكرانيين والأميركيين والأوروبيين، كما لبقية الفاعلين الدوليين والإقليميين، المعنيين أو الضالعين بطريقة أو بأخرى في هذه الحرب. واللافت أن مفاعيل هذا الحدث تتجاوز وتتخطى حدود منطقة أوراسيا، أو حتى الأطراف المشاركة والمساهمة في هذه الحرب وفي المجهود الحربي من الدول والقوى الدولية، وتتعداها إلى بقية دول المنطقة والعالم بأسره، وكذلك تداعياتها.

 

واللافت أيضًا أن ما بعد هذه الحرب ليس كما قبله على الإطلاق. لقد تغير المشهد الدولي كثيرًا. كذلك تغير المناخ الدولي كثيرًا. كما تغير النظام الدولي ومنظومة العلاقات الدولية كثيرًا من جراء هذه الحرب ومسار أحداثها ونتائجها القريبة والمتوسطة والبعيدة المدى، أو القصيرة والمتوسطة والطويلة الأمد. الثابتة الأكيدة أن هذا الحدث العالمي، في إشارة إلى الحرب الروسية - الأوكرانية، قد زعزع استقرار النظام الدولي الذي كان قائمًا من أسسه، بل إنه أجهز على ما تبقى من هذا النظام الدولي المتصدع، المتداعي والمتهالك.

 

عودة روسيا من جديد كفاعل دولي - إقليمي

المهم من كل هذا المخاض الذي تجتازه منطقة أوراسيا وقارة أوروبا منذ ما يربو على السنتين تقريبًا هو صمود روسيا في مواجهة الناتو، وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركية، وبالتالي عودتها من جديد إلى الساحة العالمية كفاعل دولي - إقليمي. هي قوية، تمتلك القوة، وتستخدم القوة بشكل فعلي وعملي في الميدان، إذا ما دعت الحاجة أو اقتضت المصلحة ذلك. روسيا اليوم ليست هي نفسها كما كانت منذ عقد أو عقدين اثنين أو ثلاثة عقود من الزمن. كذلك روسيا الآن، بعد بدء العملية العسكرية الخاصة لروسيا في أوكرانيا واندلاع الحرب الروسية - الأوكرانية، ليست هي نفسها قبيل هذه الحرب وعشية انطلاق هذه العملية. روسيا تتلقى الضربات العسكرية والأمنية. نعم، هذا صحيح. وفي المقابل، هي أيضًا تقوم بتسديد الضربات إلى أوكرانيا، ومعها ومن خلفها كل من أوروبا وأميركا. وهذا صحيح أيضًا. يبقى احتساب النتائج المباشرة وغير المباشرة بميزان الأرباح والخسائر. وهي عملية حسابية دقيقة.

 

على أية حال، روسيا تتقدم بخطى ثابتة. هي تواجه الكثير من الصعوبات، تتكبد الكثير من الخسائر، وتدفع الكثير من الأثمان. وكل ذلك هو طبيعي ومنطقي وبديهي في حالات الحروب والنزاعات المسلحة والصراعات العسكرية. فروسيا تنازل وتقارع الغرب كله، وعلى رأسه أميركا، ومعها أوروبا كلها. المعركة صعبة، والمواجهة ليست سهلة. ولكن المردود السياسي والإستراتيجي هو أكبر وأبعد وأعمق وأهم من كل ذلك بكثير.

 

العدوان الإسرائيلي على غزة سنة 2023

إن حرب العدوان التي أعقبت عملية الطوفان هي محطة تاريخية، مفصلية ومصيرية. هي مسألة حياة أو موت بالنسبة للأطراف المتحاربة أو المتصارعة كافة. فقد بلغ النزاع المسلح والصراع العسكري نقطة اللاعودة. والوضع الراهن (Statuquo) يعكس بوضوح التموضع والإصطفاف السياسيين والإستراتيجيين على امتداد المنطقة للقوى الدولية والإقليمية بين المحور الأميركي - الإسرائيلي من جهة، ومحور المقاومة من جهة أخرى. ثمة مترتبات مباشرة وغير مباشرة لهذه الحرب، أو لنقل هذه المعركة الحاسمة من تاريخ هذه الحرب الطويلة. بعض هذه المترتبات بات معروفًا، وقد تمت الإضاءة عليه والإحاطة به والخوض فيه، في حين أن بعضها الآخر لم يتبلور بعد، أو لنقل أنه ما يزال غير معروف وغير معلوم، أو بالأحرى غير محسوم.

 

الثابتة الأكيدة في هذا المضمار أن هذه المحطة التاريخية نفسها قد أحدثت انعطافة تاريخية، وشكلت علامة فارقة هي أيضًا، وأفضت إلى انقلاب راديكالي في الأوضاع الدولية والإقليمية، وقلبت الأمور رأسًا على عقب في هذه المنطقة الجيوسياسية والجيواستراتيجية، فائقة الأهمية والخطورة والحساسية. من هنا، يمكن القول، في المحصلة، أن ما بعد هذا الحدث الكبير والعظيم ليس كما قبله، سواء كان بالنسبة للنظام العالمي الجديد، أو كان بالنسبة للنظام الإقليمي الجديد.

 

صعود محور المقاومة كفاعل دولي - إقليمي

اللافت من كل هذا المخاض الإقليمي في خضم هذا العدوان غير المسبوق، والذي أعقب ذلك الطوفان غير المسبوق أيضًا، منذ ما يناهز السنة تقريبًا، هو ظاهرة صعود محور المقاومة، أو ما بات يُصطلَح على تسميته في الأدبيات السياسية والصحافية والإعلامية بمحور المقاومة أو حلف المقاومة، بطريقة مشهدية، كفاعل دولي - إقليمي. وهذا ما يعنينا من كل ما يحصل في المنطقة. إن محور المقاومة هو ظاهرة حديثة النشأة والعهد وجديدة من نوعها، وإن كانت بعض مكوناته موجودة، وسابقة في وجودها له، حاضرة وفاعلة منذ سنوات وعقود عدة. وهي ظاهرة مركبة ومعقدة. كما أنها ظاهرة هجينة، غير متجانسة، ولكنها - مع ذلك - متسقة ومتماسكة، بل متراصة، متعاضدة ومتكاملة. فهي تضم عددًا لا بأس به من الفاعلين الدوليين والإقليميين والمحليين، من مثل الدول والحكومات والجيوش وحركات المقاومة الشعبية والإسلامية والمنظمات غير الحكومية، العسكرية أو المسلحة، التي تنضوي كلها فيه، وتنخرط في مشروع الممانعة والمقاومة ضد المشروع الأميركي - الإسرائيلي. وقد أثبت هذا الحلف أو المحور الإقليمي، الناشئ والصاعد، كفاءته وجدارته بالممارسة ومراكمة التجربة والخبرة؛ كما أنه أثبت صدقية وصحة وصوابية خياراته السياسية ورهاناته الإستراتيجية. هو فرض نفسه بقوة على أجندة الفاعلين الدوليين والإقليميين الكبار، إذ لم يعد بالإمكان التجاهل له أو التغافل عنه. وهو معني بشدة بتحديد مصير المنطقة برمتها ومصائر البلدان والشعوب فيها، كما بحسم ورسم الترتيبات الإقليمية الجديدة للمرحلة العتيدة والمراحل التي تليها بالتبعية.

 

تفكيك هيمنة الدولار منذ سنة 1944

من أبرز أدوات الهيمنة الأميركية على العالم والنظام العالمي كانت ولا تزال هيمنة الدولار الأميركي نفسه على النظام المالي والنقدي الدولي، وذلك منذ توقيع وإبرام وصدور إتفاقية بريتون وودز (Bretton Woods Agreement) سنة 1944، عشية انتهاء الحرب العالمية الثانية. وهي أيضًا تُعَدّ من أسباب استمرار هذه الهيمنة الأميركية حتى تاريخه، سواء كان في الحقبة التاريخية والزمنية الأولى لها في ظل الثنائية القطبية والحرب الباردة بعد الحرب العالمية الثانية، أو كان في الحقبة التاريخية والزمنية الثانية لها في ظل الأحادية القطبية بعد الحرب الباردة، أو كان حتى في الحقبة التاريخية والزمنية الثالثة والأخيرة لها بعد الأحادية القطبية، وهي الحقبة الراهنة أو الحالية، أو لنقل حقبة ما بين الأحادية القطبية السابقة والتعددية القطبية اللاحقة، المفترضة أو المتوقعة والمنتظرة، على اعتبار ما سوف يكون بطبيعة الحال. اللافت في الآونة الأخيرة أن هذه الهيمنة للدولار الأميركي، طوال هذا التاريخ الحديث والمعاصر، أخذت تتراجع وتنخفض وتتقلص، وكذلك سلسلة براثن وقيود هذه الهيمنة تتآكل وتتفكك. هذه الظاهرة من الهيمنة العميقة والثقيلة هي صعبة للغاية. وهذه المهمة في تفكيكها، وبالتالي التنصل والتحرر منها، لم تكن سهلة. وهي ليست سهلة - على ما يبدو - في المرحلة العتيدة وفي المستقبل على المدى القريب أو المتوسط وغير البعيد. ولكنها انطلقت - وهذا هو المهم أو الأهم - وإن كانت تحتاج إلى المزيد من الوقت. فقد شرعت العديد من القوى الدولية والإقليمية، الوازنة والفاعلة والمؤثرة، بصورة تدريجية أو متدرجة، ووفق خط بياني تصاعدي غير تنازلي، إلى اعتماد عملاتها الوطنية ضمن إطار التعاملات الإقتصادية والتجارية والتداولات المالية والنقدية، الثنائية والمتعددة الأطراف؛ مما يعني بالتبعية تراجع أهمية الدولار ومكانته وقيمته وقدرة على الهيمنة حكمًا وحتمًا، كأداة بيد الولايات المتحدة، ومن ضمن مؤسسات وقنوات وآليات عمل ومنصات الأمم المتحدة. هذا المعطى المستجد يمكن الرهان عليه، بل لا بد من البناء عليه، في إضعاف قوة الولايات المتحدة والحد من سطوتها بطريقة سلسة، غير متسرعة وغير متهورة، حتى لجهة الإمعان والإفراط والإسراف في اللجوء والركون إلى انتهاج سياسة الحصار والعقوبات والضغوطات المالية والنقدية والإقتصادية والتجارية.

 

النظام الدولي المتعدد الأقطاب

عندما ينتهي هذا المخاض الكبير، وتضع هذه الحروب والأزمات الدولية والإقليمية والنزاعات المسلحة والصراعات العسكرية أوزارها، من أوراسيا إلى الشرق الأوسط، نكون قد دخلنا في طور سياسي وتاريخي جديد. قد يستغرق هذا المسار بعض الوقت. وهو ليس بالأمر اليسير، أي الإنتقال العسير من حيز ما نحن فيه إلى حيز آخر، يكون عنوانه الأساسي ولادة النظام الدولي الجديد، وهو نظام دولي متعدد الأقطاب (Système international multipolaire). ثمة قوى كبرى وقوى عظمى قد تمكنت من فرض نفسها، ولا سيما الولايات المتحدة والصين وروسيا، في حين تراجعت وانكسرت قوى أخرى، حيث يبدو أن الإتحاد الأوروبي أو المجموعة الأوروبية قد أصبح خارج حلبة التنافس أو السباق الإستراتيجي، وهو لن يكون حتى في عداد القوى الكبرى والقوى العظمى، لا هو ولا حتى أي من القوى الأوروبية. من هنا، ثمة ثلاث قوى عالمية سوف تتصدر المشهد العالمي بقوة، وتكون في الواجهة ولها الصدارة على سواها، ألا وهي واشنطن وبكين وموسكو. معنى ذلك ألا مكان للأحادية القطبية في المستقبل، لا الأميركية ولا حتى سواها، بل توازن دولي مركب ومعقد، وكذلك دقيق للغاية.

 

النظام الدولي المتعدد الأطراف

هذا النظام الدولي الجديد، الذي كَثُر الكلام والحديث عنه طيلة السنوات المنصرمة، هو أيضًا يُفترَض أنه نظام دولي متعدد الأطراف (Système international multilatéral)، وليس فقط مجرد نظام دولي متعدد الأقطاب على أهميته. ثمة اتجاهات دولية عدة سوف تطفو على السطح. وهي ستكون متباينة ومتمايزة عن بعضها. وهي اتجاهات سياسية وأيديولوجية وثقافية وحضارية واقتصادية واجتماعية. وثمة أطراف دولية عديدة سوف تكون موجودة وحاضرة وفاعلة من هنا وهناك. هذا يعني أن اللعبة الدولية ستكون متعددة الأطراف، غير محصورة بقطب عالمي واحد أو قطبين عالميين اثنين، ولا حتى قوة عالمية واحدة أو قوتين عالميتين اثنتين، وغير مقصورة عليها هي وحدها؛ ما يحيلنا على الدبلوماسية متعددة الأطراف والمعاهدات متعددة الأطراف أيضًا. وثمة تكتلات دولية عديدة سوف تتشكل، وهي بدأت تتبلور. هي عبارة عن تكتلات دولية، عالمية أو إقليمية، ذات أهداف أو مقاصد اقتصادية وغير اقتصادية، من مثل مجموعة دول البريكس، مجموعة دول معاهدة شنغهاي، مجموعة دول منطقة جنوب شرقي آسيا ومحور المقاومة أو حلف المقاومة وغيرها. وجميعها مرشحة لأن تضطلع بالمزيد من الأدوار والمسؤوليات والأعباء الدولية على الصعيدين العالمي والإقليمي.

 

يُضاف إلى كل ذلك ظاهرة صعود أو صمود قوى إقليمية عدة في أكثر من بقعة أو منطقة أو إقليم، وهي أيضًا معنية بإظهار وتظهير حضورها ونفوذها وقوتها ودورها، ولا سيما في حدود نطاق مجالها أو محيطها الإقليمي، ومن بينها بعض القوى الناشئة أو الصاعدة، من مثل اليابان، تركيا، إيران، باكستان، أستراليا وإندونيسيا… إلخ. فهي قوى دولية لا يُستهان بها، وإن كانت لا ترقى إلى مرتبة القوى العالمية وخانة القوى الكبرى والقوى العظمى، ولكنها ليست كبقية الدول والبلدان.

 

مبدأ التعددية في ميزان القوى الدولية ونمط توزيع القوة الدولية

هذا النظام العالمي الجديد الذي نشهد مخاض ولادته الصعبة منذ مدة، يختلف عما سبقه في الكثير من المحددات، المرتكزات، المضامين، الجوانب، الأبعاد، الملامح، المعالم والسمات، وكذلك آليات العمل الدولية فيه. فعندما نتوقع أنه نظام دولي متعدد الأقطاب ومتعدد الأطراف (Système international multipostes et multilatéral)، هذا يعني أن قاعدة التعددية ستحل لاحقًا في عملية التكوين وعملية التركيب على صعيد مفهوم توازن القوى الدولية محل قاعدة الأحادية وقاعدة الإحتكارية للقوة والسلطة والنفوذ والقدرة على التأثير سابقًا. فلا مكان لسياسات الإستئثار بالنفوذ والهيمنة على مناطق النفوذ والإمساك بالقرار على الصعيد الدولي وفي المجال الدولي من قبل قوة دولية أو طرف دولي دون سواهما من القوى الدولية والأطراف الدولية.

 

مبدأ التشاركية في عملية صناعة القرار الدولي وسيرورة الإدارة الدولية

إن النظام العالمي الجديد قيد التشكل سيقوم أيضًا على أساس قاعدة التشاركية في عملية صناعة القرار الدولي وسيرورة الإدارة الدولية للشؤون العالمية والإقليمية، السياسية والأمنية والإجتماعية والإقتصادية والمالية والنقدية والتجارية والمناخية والبيئية. هذه القاعدة التشاركية ستحل لاحقًا محل قاعدة التفرد في صناعة القرار الدولي واتخاذه، ولا سيما عندما كان ذلك من خارج مؤسسات وقنوات ومنصات وآليات عمل النظام الدولي أولًا، أي من خارج الشرعية الدولية وإرادة المجتمع الدولي، وقاعدة الإنفراد بالتمتع ببعض المزايا والمكتسبات والإمتيازات والحصانات ثانيًا، وقاعدة الإستفراد على أرض الواقع ببقية الدول والبلدان والأمم والشعوب ثالثًا، ولا سيما من العالم الثالث، والتدخل في شؤونها الداخلية. وعليه، فإن الإدارة المشتركة للقضايا والمسائل والشؤون الدولية من قبل العديد من المرجعيات وعواصم القرار والقوى العالمية والإقليمية تعني أن التشاركية هي المدماك الثاني في النظام العالمي الجديد، كما التعددية هي المدماك الأول. وهذا يعني إعادة رسم خارطة المنطقة والعالم وتحديد مناطق النفوذ وتقاسم المكاسب والمغانم بدلًا من تناقض وتضارب السياسات والمشاريع والمصالح والأطماع.

 

النظام الإقليمي الجديد والترتيبات الإقليمية المستجدة

يرتبط واقع ومستقبل النظام الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط بواقع ومستقبل النظام العالمي ارتباطًا وثيقًا. فالأحداث التي تدور رحاها في هذه المنطقة من العالم - منطقة غربي آسيا - ليست منفصلة على الإطلاق عنها في بقية الكرة الأرضية، ومنها - على سبيل المثال لا الحصر - الأحداث في منطقة أوراسيا ومنطقة جنوب شرقي آسيا. فالنظام الإقليمي السابق قد انتهى إلى غير رجعة. وهو فشل فشلًا ذريعًا، وأخفق إخفاقًا شنيعًا. هو لم يعد يمكنه البقاء والإستمرار. وهو ربما يكون غير جدير بالحياة، بحيث فقد مبررات الوجود والبقاء، بعدما عجزت جامعة الدول العربية، لكونها وبوصفها النواة الصلبة والعامود الفقري للنظام الإقليمي العربي ومفهوم الأمن القومي العربي، في معالجة القضايا العربية المشتركة وحل الأزمات والنزاعات والصراعات العربية واستعادة الحقوق العربية. والنظام الإقليمي الجديد لم يولد ولم يُبصِر النور بعد. وهو الأمر الذي يفسر - إلى حد كبير وبعيد - حالة الفراغ الذي نشهده في الإقليم، بعد تراجع وانكسار المد القومي العربي واندثار فكرة ومشروع الوحدة القومية العربية وتشتت مجموعة البلدان العربية، وبالتالي حالة الإرباك والتخبط والضياع والتيه. إن النظام الإقليمي الجديد سيكون مختلفًا، ولن يكون عربيًّا خالصًا. فثمة فاعلون إقليميون جدد هم شركاء جدد في الإقليم والنظام الإقليمي، في إشارة إلى كل من تركيا وإيران بالحد الأدنى وعلى الأقل، بغض النظر عن الكيان الإسرائيلي بطبيعة الحال. وثمة فاعلون دوليون جدد أو متجددون هم معنيون أو ضالعون في الإقليم والنظام الإقليمي أيضًا، في إشارة إلى الولايات المتحدة وروسيا بالدرجة الأولى، الصين بالدرجة الثانية، وربما بعض القوى الأوروبية الأساسية والتقليدية بالدرجة الثالثة، لكن ضمن حدود معينة، في إشارة إلى كل من فرنسا، المملكة المتحدة، ألمانيا وإيطاليا. وعليه، فإن هذا المخاض الشاق والمضني لولادة النظام الإقليمي الجديد، منذ انفجار أحداث الربيع العربي - أو بالأحرى ما يُصطلَح على تسميته بثورات الربيع العربي - حتى اندلاع العدوان الإسرائيلي على غزة راهنًا مرورًا بعملية طوفان الأقصى مؤخرًا، سيفضي في نهاية المطاف إلى اعتماد مجموعة أو سلسلة من الترتيبات الإقليمية الجديدة أو المستجدة، والتي تبقى لصيقة بالنظام الإقليمي الجديد والحقبة الإقليمية الجديدة.

 

قد يكون حريًّا بنا عدم المبالغة لدى الإحاطة بالوضعية، التقييم للوضع، التقدير للموقف والاستشراف للمستقبل، وعدم الإفراط في التفاؤل من جهة، كما عدم التفريط بالمعنويات على أرضية الإنجازات من جهة أخرى. وقد يكون حريًّا بنا أيضًا التريث والتروي وعدم التسرع وعدم الإستعجال وعدم التهور حتى. فالنظام العالمي الجديد لم يبدأ بعد. والنظام العالمي القديم لم ينتهِ بعد، أو لنقل إنه لم يسقط ولم يختفِ بكامله بعد. أما اللحظة غير المسبوقة في مسار تطور النظام الدولي ومنظومة العلاقات الدولية، التي نشهد إرهاصاتها مؤخرًا وراهنًا على صعيد الحياة الدولية وفي كنف المجال الدولي، فهي مفصلية ومصيرية، تحتبس معها الأنفاس، وتشخص لها الأنظار. ويبقى كل شيء معلقًا ومؤجلًا، أو في طور التطور والتغير والتبدل والتشكل وإعادة التشكل، حتى انقضاء وانتهاء هذا المخاض الكبير والعظيم، وهو المخاض العسير لولادة النظام العالمي الجديد، ومن ضمنه الشرق الأوسط الجديد. فعندما ينجلي غبار المعركة، وتضع الحرب أوزارها - هذه الحرب العالمية الثالثة بكل معنى الكلمة، المفتوحة على الإحتمالات كافة، بحلتها الجديدة وصيغتها الجديدة - سوف يتبين الجميع في المنطقة والعالم الخيط الأبيض من الخيط الأسود.

theme::common.loader_icon