فارس يواكيم يفتح «عيون إلزا» للقارئ العربي
فارس يواكيم يفتح «عيون إلزا» للقارئ العربي
طوني عيسى
Saturday, 27-Jul-2024 07:10

ثمّة جدل قديم حول علاقة الشعر بالترجمة. هل يمكن نقل الشعر من اللغة التي كُتب فيها؟ وهل يستطيع المترجم أن ينقل كامل الصور والأحاسيس والخيالات والإيحاءات التي
أودعها الشاعر قصيدته، بشحناتها الأصيلة المُعبَّر عنها بـ»اللغة الأم» التي هي أيضاً روحُه وأصالته القومية، كما يرى كمال يوسف الحاج؟

إنّ علاقة الشعر بالترجمة هي انعكاس لعلاقة اللغة بالفكر. فهل هما منفصلان كما يستنتج ديكارت، أم هما مترابطان، لأن الكلمات هي الأداة التي بها يتم التفكير، كما يرى برغسون؟

في الواقع، وفي ضوء هذه الإشكاليات التي لم تُحسَم، يتهيّب الكثير من المترجمين أن يتصدوا للأعمال الشعرية. وقلائل منهم تجرأوا على المغامرة، ومن هؤلاء فارس يواكيم، الكاتب والمخرج والباحث الأدبي والفني.

لقد فعلها يواكيم، وأطلّ بترجمة لواحد من ألمع شعراء الدادائية والسوريالية الفرنسية، لويس أراغون (1897- 1982)، في مجموعته التي شكلت مفصلاً في تاريخ الشعر الفرنسي، «عَيْنا إلسا» (1942)، أو «عيون إلسا» كما يحب البعض أن يترجمها. والكتاب صادر عن «دار أطلس للنشر والتوزيع» في دمشق، والغلاف من تصميم الفنان التشكيلي بطرس المعري.

معظم قصائد هذه المجموعة كتبها أراغون لإلسا تريوليه رفيقة حياته التي بقيت قصة حبه الكبرى حتى وفاتها في العام 1970، وقد أعطى أراغون اسمها لثلاث أخرى من مجموعاته الشعرية، إضافة إلى «عيون إلسا»، هي: «إلسا»، «مجنون إلسا»، و»ما كانت باريس لولا إلسا».

لكن أراغون الذي بقي ملتزماً سياسياً ووطنياً طوال حياته، جعل من الحبيبة إلسا أحياناً رمزاً لفرنسا. وفي هذا الديوان حرص على أن يكون هو شاعر المقاومة الفرنسية ضد الاحتلال النازي، وكان هدفه أن يلهب مشاعر الجماهير. وهو لهذه الغاية سعى إلى أن يكون شاعر الشعب لا شاعر النخبة.

ليست المرة الأولى التي تترجَم فيها «عيون إلسا» إلى العربية. فقد سبق للشاعرين عبد الوهاب البياتي وأحمد مرسي أن قاما بالمحاولة معاً. وكانت هناك ترجمة أخرى لفؤاد حداد. وقد يقول قائل، ماذا يمكن أن تقدم أي ترجمة جديدة لهذه المجموعة؟ ولكن، في الواقع، استندت نسخة يواكيم إلى مفاهيم الترجمة الأكثر حداثة، بحيث جاءت أقرب ما يكون إلى روح النص الأصلي، وليست نقلاً جامداً لحرفية العبارة. وهذا هو الرهان الذي عقده المترجم، واستطاع أن يربحه.

بدءاً من الكلمات الأولى للقصيدة، يفاجئك يواكيم بسلاسته وجرأته، ولكن من دون الخروج عن روح النص، حيث الترجمة في معناها العميق هي التزام بالمعنى لا بالعبارة المفردة. يقول:

«عيناكِ ما أعمقهما، حين انحنيتُ لأشرب

رأيت فيهما الشموس جميعاً جاءت تتمرّى

وكل اليائسين يرتمون فيهما منتحرين

عيناكِ ما أعمقهما... فيهما أفقد الذاكرة».

أمّا ترجمة البياتي فكانت في هذا المقطع أقرب إلى حرفية النص:

«عيناكِ من شدة عمقهما رأيت فيهما وأنا أنحني لأشرب

كل الشموس تنعكس

كل اليائسين يلقون فيها بأنفسهم حتى الموت

عيناكِ من شدة عمقهما... أني أضعت فيهما ذاكرتي».

واللافت في ترجمة يواكيم هو المقدمة التي شرح فيها بإسهاب ما فعله، وأورَد نماذج من المعضلات التي واجهها، وبرّر خياراته التي أظهَر فيها جرأة وبراعة في الابتكار.

في القصيدة أيضاً يقول أراغون:

Tes yeux sont mon Pérou ma Golconde mes Indes

يشرح واكيم كيف قام بترجمة هذه العبارة. يقول: اشتهرت بيرو بأنها بلاد الذهب وفيها المناجم، أما غولكوند فهي هندوستان حيث حيدر أباد حالياً وهي بلاد اشتهرت بالحجارة الكريمة النفيسة، أما الهند فهي طريق الحرير وعاصمة التوابل ومقصد القوافل في تجارة العصور الوسطى. فالمناطق الثلاث اشتهرت بالثراء الكامن في أرضها. والترجمة الحرفية كانت تقضي بالقول: «عيناك عندي هي بلاد بيرو والغولكوند وبلاد الهند». وليس هناك متّسع في إطار البيت الواحد لشرح الخلفيات التاريخية لبيرو والهند وهندوستان لكي تكون الاستعارة واضحة، لذلك وجدتُ أنّ الأنسب أن أضع المرادف الذي يَفي بالمعنى المقصود، وإنْ بمفردات جديدة ومختلفة: «عيناكِ بلاد الذهب، وكنوزٌ بها أحلم».

فعلى رغم بساطة الصياغة في قصائد ديوان أراغون، يقول يواكيم، هي «لم تخلُ من صعوبة في الترجمة أحياناً. ومن البداهة القول إن ترجمة الطباق سهلة بينما ترجمة الجناس مستحيلة إلا فيما ندر. وفي مرات عديدة لجأ أراغون إلى هذا الأسلوب الذي يخلق رنيناً موسيقياً، بل إنه في بعض الأبيات لجأ إلى تكرار القافية داخل البيت الواحد لأجل تفعيل النغم الإيقاعي. وإذا كانت ترجمة بعض الأمثال الشعبية ممكنة بإيراد البديل المُعادِل لها، فإنّ بعض أبيات أراغون احتاجت إلى تأويل خاص ليستقيم المعنى في النص العربي.

كما يورد يواكيم في كتابه مضمون مقدمة كتبها أراغون لمجموعته، في العام 1940، ويتناول فيها الشعر والقافية، وهي ذات قيمة نقدية فريدة. ولأن هذه الشروحات حول القافية يستحيل نقلها من الفرنسية إلى العربية، فقد عمد إلى استنتاج الخلاصات منها وتقديمها إلى القارئ العربي. كما تتميز هذه الترجمة بحواشٍ وافية، وبالتمهيد للقصائد بشروحات كان لا بد منها للاطلاع على خلفياتها بشكل أفضل.

لا يتوقف فارس يواكيم عن إدهاشنا بإبداعه وتعدد مواهبه وخبراته. وهو إذ يقدم إلى القارئ العربي أراغون، النموذجي في التزامه السياسي والوطني الصافي، فإنّ كتابه يأتي في اللحظة المناسبة، حيث العرب يحتاجون إلى مثل هذا النموذج، في لحظات صراعاتهم الكبرى والمصيرية.

theme::common.loader_icon